مروة كريدية
سيبقى حيًّا وإن رحل… دومَا كما كان عابرًا للتخوم
لوطن سيد حرٍّ مستقلٍّ نذر حياته …..صحافيّأ رسولا وسيّاسيًا أديبًا
تكتنز ذاكرته تاريخ حضارات…. فكان باحثا موسوعيّا واعلاميًّا مناورًا
واستحق ان يكون في قائمة الخالدين
على عرش الصحافة تربع نصف قرن شاهدًا على آمال عريضة لشعب انهكه التشرذم و آلام حرب دفنت في قلب ابنائه ، فكان عرّاب المصالحات والحوارات وصاحب القيم النبيلة حيث لم يغير عنف السياسة من وداعة سريرته شيئًا .
عاد الى البياض حيث السلام الدائم، لتقفز الى ذاكرتي ومضات خاطفة للقاءات عابرة نادرة حفرت في مخيلتي صورة استثنائية لرجل اكتنز دهرا وخبايا حرب وآلام أمة.
لم اتجاوز السابعة عشر في مقتبل حياتي الجامعية، حيث كانت كلمات "الشخصيات البارزة " في المناسبات الرسمية الجامعية عبئًا ثقيلا تملها الأنفس؛ كان لغسان التويني كلمة في حفل أكاديمي ، وببساطة عجيبة كان يسبر بحنكة خبير ملامح الطلاب، ويخاطبهم بما يشبه الرجاء الذي يعول على شريحة من صنّاع المستقبل و توجه إلينا بالقول: يا طلاب السنة الأولى بالذات " الأهم من العلوم هو الانسان القادر على معرفة الطبيعة … واعلموا انه أيا تكن الشهادات التي تطمحون اليها، فلن تصنفوا في مواقع اهل المعرفة مالم تستوعبوا تاريخ الانسان "
كلمات علقت في ذاكرتي لانها "لم تعجبني وقتها" كوني أحب الانسان ولا أحب تاريخه، حيث كان التاريخ بالنسبة لي حينها مجرد احداثٍ دامية مزوّرة يجب علي استظهار تفاصيلها المقيتة. غير ان تفاعله الحيوي ادخل الطلاب في الجانب الاجتماعي للحياة الجامعية ليقول "سأتذكر الوجوه التي كانت كلها شغفا سواء بين المعلمين وبين طلاب قلّت حوارتنا معهم الا بنظرات الود و التشجيع ".
وبعد تلك المناسبة بأعوام ثلاث، انشغلت عديد من الجامعات اللبنانية بتفعيل الحواربين الطلاب لازالة رواسب الحرب الأهلية من نفوس عانت ويلات التشظيات الطائفية المريرة، وكنت قد انخرطتُ في ورشة عمل حول حوار الشباب الاسلامي المسيحي في جامعة القديس يوسف، وكان التويني يشجع الشباب على الاختلاط بالآخر ومعايشة يومياته بكل تفاصيلها كي يختبر ثقافة الآخر ويعشقه بعيدا عن سفسطة اللاهوت المقارن والجدليات الفقهية العقيمة الي كانت تستهوينا أحيانا؛ وفي خطبة بمناسبة تدشين "مركز الدراسات المسيحية الاسلامية " بجامعة البلمند اشارلنا: " التلاقي الحيّ المستمر لواقع الحياة المشتركة وتحدياتها اليومية "اهم من "اللقاءات الاكاديمية ايا تكن رفعتها " وان "الحوار هو معرفة الآخر وعشقه، وبالنسبة الينا، قضية موت و حياة … وليس مجرد وليدة لاهوت نظري وعلم فقهي".
لقد رحل التويني عن عالم تسارعت أحداثه وفي أوج المخاضات الثورية التي تشهدها منطقة لم تهدأ يومًا ؛ وكأن كتابه " حوار مع الاستبداد " لمقالاته خلال عام 2003 كان بمثابة ارهاصٍ مبكر لما طال الانظمة العربية بعد سبعة أعوام عندما كتب في السابع من نيسان من ذاك العام " فلا يظنن حاكم ان في وسعه المحافظة على رأسه "عندما تغيّر الدول" إلا إذا ركب هو مركب التغيير وآمن بالجهاد من أجل حياة أمته بدل التنازل عن الحياة لواحد من مصيرين متحالفين في الجوهر :الاستعمار أو الارهاب .. او لكليهما معا وتلك تكون الطامة الكبرى "
كما اشار ايضا في خريف العام نفسه يحذر قادة الدول العربية بان "ان لم نسلّم الامم المتحدة مفاتيح " السجن العربي الكبير " سجونا سجونا نشرع ابوابها بكل دهاليزها في كل عواصمنا " فاننا سنتحول الى "مغانم وسبايا للدول العظمى ..واسلابا لاقتصاداتها الطامعة كلها بنا .. بينما تختنق الشعوب في دخان " ثقافة الموت " وهي ترقص جائعة على القبور."
وفي أواخر عام 2008 التقيته ضمن لقاء خص به اسرة تحرير "إيلاف " حيث اراد ناشر ايلاف عثمان العمير وقتها تكريمه بملف خاص بمناسبة عيد ميلاده كأحد أبرز الصحافيين العرب في القرنين العشرين والحادي والعشرين؛ فكانت دردشات مطولة مع المشاركين ؛ حيث اعتبر ان قمة المأزق العربي يتلخص في أنّ تركيا وايران تتصرفان نيابة عن العرب وتمسكان بزمام الوصاية على التاريخ العربي المقبل وأن للطائفة الشيعية في لبنان تراثًا روحيًا عميقًا ولها جذور صوفيّة تمتد إلى الإمام علي بن ابي طالب في نهج البلاغة وعليها التحرر من الخط الفارسي.
وتمر السنوات مسرعة وتخطفنا الأحداث، وفي آخر مرة التقيته لم أشأ ان أحدثه بالصحافة ولا بالسياسية كنت ابحث منه عن حكمة انسان وقلب جدٍّ أعياه المرض وآلامه رحيل ابنه، فسألته عن علاقته بحفيدتيه التوأم اللتين ولدتا قبل اغتيال والدهما جبران بأشهر، فقال لي " حاجتنا لطفولتهما أكبر من حاجتهما لنا …اتمنى لكل بنات جبران المسرة ….فجبران باقٍ بهنّ "
عاد غسان الى البياض
سأتذكر وجهه
ولفافة بين إصبعيه ترتجف
وكأس نبيذ كالحبر ينتشي
فوق ورق صحيفة يفتتحها
عند ابلاج كل نهار !
التويني في سطور :
ولد في 5 يناير 1926 وتوفي في 7 حزيران يونيو 2012
رأس غسّان تويني تحرير ومجلس إدارة جريدة النهار البيروتيَّة، وصحف أخرى ناطقة باللغة الفرنسية. وبعد تخرّجه من جامعة هارفارد، درّس غسّان تويني في الجامعة الأميركيَّة في بيروت كما ترأس بعد ذلك جامعة البلمند.
سجّل أول مشاركة له في البرلمان في العام 1951، ليدخل في العام 1953 في تشكيلة الحكومة. وأسندت إليه حقائب وزاريَّة عدَّة، فكان نائبًا لرئيس الوزراء ونائبًا لرئيس مجلس النوّاب، ووزيرًا للإعلام والتربية الوطنيَّة والعمل والشؤون الاجتماعيَّة والسياحة والصناعة والنفط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق