كثرت التحليلات والاحتفالات حول أهمية فوز الناشطة اليمنية توكل كرمان بجائزة نوبل للسلام. احتفالٌ لم تأبه به وسائل الإعلام العربية كثيرا، فيما أدخلته بعضها تحت دائرة "الفوز النسوي"، مكرسّة بذلك التشظي والفصل لمفهوم الإبداع الإنساني الذي يتجاوز كل اختزال وانتقاصٍ للكائن الآدمي، بغض النظر عن جنسه ولونه وطريقة لبسه وكافة الشكليات الأخرى، التي يُصِّر منظرو "الفصل " على تكريسها في مجتمعات بطريركية ذكورية تعاني "عقدة الاخصاء".
عقدة تتبلور بأشكال الهيمنة التي ترفض العقلية التداولية، حيث يقع أشد أنواع العنف الموّلد وأقساه على الحلقة الأضعف في المجتمع الذكوري في حلقة من سلسلة طويلة من العنف الموجَّه ضد الإنسانية، بل وضد الطبيعة الكونية، بدءا من العنف التي تمارسه الحكومات على الشعوب بحجة الحفاظ على "الأمن"، مرورا بالعنف الذي يمارسه الرجل على المرأة بحجة "التقويم"، انتهاءً بالقمع الذي يمارسه الأهل على أطفالهم بحجة "التربية ".
فالعلاقة وثيقة بين العنف وتشكّل الهوية عند الفرد في عالمنا العربي، كون هذه الأخيرة تتأسس في مجتمعاتنا على مبدأ الهيمنة والسيطرة على من يُصنَّف أنه أضعف، ومبدأ الهيمنة هذا قائم على تحكّم من يمسك بزمام السلطة، الذين هم الذكور في واقعنا، و هم من يتحكمون في وسائل الإنتاج المادي والمعنوي، وهم من يحتكر عادة وسائل العنف الفيزيقي المباشر والرمزي والمعنوي و الديني...
ولعل واقع انتفاضات الربيع العربي أعطى مؤشرا على أن الوعي الشبابي تجاوز الواقع السلطوي بوجهيه "الموالي والمعارض" حيث وجدت المعارضات التقليدية نفسها متأخرة عن الطروحات الشبابية الذين سئموا ممارسة عجائز السلطة وعجائز المعارضة للعبة الهيمنة.
لقد استطاعت كرمان وغيرها من شابات وشبان الثورة، كسر دائرة الهيمنة والعنف والخروج إلى العالم للمطالبة السلمية بالكرامة الإنسانية التي تتجاوز العرق والطائفة والدين والجنس.
وعندما تُعلى كرامة الإنسان وحقوقه ذكرا كان أم أنثى فوق كل اعتبار وعندما تتبلور هوية الإنسان عبر آدميته الكونية لا عنصريته لملته وعصبيته لقبيلته، عندها سنؤسس واقع راق ديمقراطي تداولي قوامه العدالة والتنمية يسعى في تطوّره نحو تحقيق التقدم والمساواة والرفاهية لكل نسائه ورجاله وأطفاله ؛ ولعل التحدي الأبرز القادم أمام شباب الثورات هو مواصلة السلمية و إحداث القطيعة مع الممارسات القمعية، وعدم تكرار نماذج الأنظمة الأخرى.
أخيرا، مبروك لتوكل كرمان ومبروك لأبناء وبنات الثورات السلمية ولكل من آمن أن السلام هو أنجع وسائل التغيير وان الاعتصام السلمي اللاعنفي ورفض اللجوء للسلاح لفرض الخيار السياسي هو السبيل للخروج من دوامة عنف الأنظمة التي لازالت تحاول تحريك النعرات الطائفية والمذهبية والمشاعر القبلية لتسوغ للعالم بقائها.
فوز كرمان ليس "نصرا نسائيا " بل ابعد من ذلك بكثير انه انتصار للمحبة في وجه البندقية وإبداع للسلمية في قلب العنف وكسر لدوائر الخوف في مجتمعات التشظي.
توكل كرمان.. إبداع السلمية في قلب العنف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق