الكتابة الشعرية ودهشة التصوف في حوار مع مروة كريدية
مقام الأنثى حاضن للتجليات …ولحكيم الأندلس مكانة في قلبي !
أجرى الحوار الشاعر والناقد : أحمد الدمناتي
مروة كريدية ليست "شاعرة " بالمعنى المألوف للكلمة، وإن كانت كتاباتها تغازل هذا الفن الأدبي؛ هادئة تتحرك في حياتها بتناغم يلامس تخوم السكينة؛ تَتَحلّى بحسٍّ عرفاني مُتَّقِد، وتؤمن بوحدة الوجود، تعترف أنها ما وصلت إلى ما وصلت إليه في مسيرتها لولا "إخفاقات" عديدة أزهرت هذا النماء، وترى أنّ ممارسات الكائن الانساني لا تنفصل عن بعضها ، وأن جوهر الممارسة الروحية لا ينفصل عن الاعمال اليومية بما فيها السياسة والاجتماع …
كريدية لا "تحترف" شيئًا بعينه ولا تسعى لتحقيق "الانجازات " على حدّ قولها، بل تؤكد أن جلّ ما تقوم به هو جزء من حركة كليَّة غير منقطعة، لذلك فهي تتصرف بتلقائية حسب الظروف. الكتابة بالنسبة لها كسائر شؤون حياتها انعكاس للخبرة المُعبِّرة عن ينبوع حبّ كامن ينكشف إبداعًا بوصفه كمال التناغم اللامتناهي بين مكونات الوجود، فالابداع عندها ليس حكرًا على أحدٍ أو على فن بعينه بل هو الوجود نفسه، وتؤكد أنَّ الحرية تكمن في الانعتاق من الرغبة الدائمة بالتملك والحرص والتشبث، فالتخلي عن "أن نريد" يورث السعادة ، كما ترى أن "النجاح الشخصي" لا قيمة له على الحقيقة إذا ما وضع في إطار إنجازات الحضارة الإنسانية، فلا يوجد شخص يستطيع أن ينجز بمفرده لأنه جزء من الكل الكونيّ.
· بداية ما هي الكتابة الشعرية وماذا يُشكّل بهاء الكلمة بالنسبة لك ؟!
شكلت الكتابة بالنسبة لي الآنَة الإبداعية أو اللحظة التي تنبجس فيها الكلمة لتكون وحيدة ذاتها تنطلق بتلقائيتها صوب الخيال الجامح اللانهائي ، ومع تطور مسيرة الذات الواعية حيث العقل ينحلّ بالتأمل، ويتلاشى البصر بالبصيرة الى ماوراء رؤية الموجود، يهدأ الذهن فتتولد المحبة الخالصة العارية عن الأدلجة و "العقائد" و"التجمعات" الفكرية، عندها يتوحد الكاتب مع "الكثرة" المحيطة به وحدة غير منقسمة تتجاوز حتى الكلمة نفسها فيتحقق الصمت … وتضمحل الكلمات وتصبح الكتابة إفصاحا عن جمال في أدقّ تجلياته… إنها كشف للبساطة والبراءة والعفوية وفيض لا محدود للعذرية .
· القصيدة خائنة المواعيد بامتياز ومتمردة على أدبيات اللقاءات الروتينية, ما هو الوقت الجميل للقبض على دهشة القصيدة وحرائقها الباذخة !؟
في بداية عهدي بالكتابة كنت أخط خواطري عند شعوري بالرغبة في الكشف عن مكنونات النفس، أما اليوم فإني لا أسعى لأيِّ شكل من أشكال "المهام" بل جلّ ما أقوم به هو اكتشاف الجمال الكامن الموجود حولنا في كل مكان والمُتَبَدِّل بعدد الأنفاس … حيث لا وقت ولا طريقة عمل ولا مرجعية فكرية، فالجمال قائم دائم، كقطرة مطر تنساب في جدول؛ في غناء الطيور كما في وجه الأطفال، حيث ينكشف الابداع بوصفه كمال التناغم اللامتناهي بين الأكوان المتكونة والحقيقة الواحدة المتجلية في كل تلك الكائنات.
· هل نستطيع الاستنتاج أن ديوانك الأول "معابر الروح " هو كشف عن "النفس" فيما ديوانك "لوامع من بقايا الذاكرة " هو اكتشاف للجمال ؟!
القارئ ربما يلمس فرقًا في البنية الدلالية للموضوعات فعند المقارنة بين خواطري الواردة في "معابر الروح" وبين " لوامع من بقايا الذاكرة " سنجد أن اللوامع أكثر عمقًا وإنْ اشترك الإصداران في التجربة الوجدانية .
ففي اللوامع أعبر فيها من طورٍ لطور ليس بالمعنى الكتابي وحسب بل بالايقاع الصوتي، فتغدو أنويَّتي على لسان الغير ناطقة، فيما ألوذ بمقام التأمل الصامت المنصت الفاني عن ذاته، في فراغ تام فيُلامس القلب ماهو لازمني فارغا من ذاكرة الماضي وان كان يستعملتها بوصفها فكرًا حيث الفراغ هو الكامن اللامرئي في الفن البصري.
· تحضر الذات بشكل صارخ في قصائدك فهل "مروة كريدية " هي المتكلمة أم أنها "الأنثى" ؟!
الذات المتكلمة في القصائد موجودة حتمًا، بيد أنها ليست الذات "الشخصانية الفردية الصورية"، فهي وإنْ وُجِدَت من وجه فإنها تعكس ذات الانسان الذي لا يوجد على الحقيقة إلا بمقدار النور الرباني الباهر المتجلي من خلاله .
· وماذا عن الحضور الأنثوي الباذخ الذي يوحي ببعض جوانبه بالمجون السافر؟!
الانثى الحاضرة في "لوامع العشق" تبدو للقارئ العادي مجرد وصف شَبَقِ لامرأةٍ توّاقة للحبيب بجنون، وصاحبة تشوف "ايروسي" يشكل العشيق فيه مصدر إحساس باللذة، وقد تبدو فيه الأنثى كمجرد تقابل ثنائي منهجي ، تتبلور إشكاليته وخواتيمه أمام الذكورة، حيث يتجلى بحث المرأة عن اللذة من خلال البوح بألمها الذاتي عن طريق الوظيفة التعبيرية باستعمال ضمير المتكلم "أنا"…
نعم ، هكذا قد تبدو العبارة بقرائتها السطحية… بيد أن" حضرة الأنثى" التي أعنيها هي ذاك المقام الروحي الأزلي… هي الأنوثة التي ترتقي من عالم الأبدان إلى البعد الانطولوجي حيث الشعاع الفائض عن الألوهة، فتغدو صورة الرغبة الجامحة عند الأنثى هي مرآة تعكس الفيض النوراني ومكان استقطاب الواردات الإلهية… أما العري الانثوي التام المقصود فهو تمام "الجهوزية" لتلقي تلك الواردات ، والوعي عندها لا يكون موجودًا إلا بقدر وجود هذا النور !
· ولكن، إن كان الحبيب المقصود هو "الله" فإن ذلك يندرج ضمن شطحات الصوفية الذين اتهموا "بالحلولية" ! فهل هذا ما تعنيه؟!
إن الخطاب الوارد في القصائد الذي يتناول توحد الحبيب بالمحبوب، لا يُقصد منه "الحلولية " بل هي خبرة تتعدى شكليات الصور ، إنها سريانٌ تخللي للنور الالهي الذي يستهلك العارف في حالة "الفناء التام عن الذات" .
ولنتنبه لمسألة : الوجود الإلهي متميز عن المظاهر النابعة عنه بيد ان هذه المظاهر والتجليات ليست منفصلة عنه …
· تقتربين ربما من طروحات الفيلسوف محيي الدين ابن عربي، فهل أنت متأثرة بفكره ؟
قطعًا وبلا شك، فإن لحكيم الأندلس في قلبي منزلة لا يعلمها إلا هو، ولروحه استحضارًا عرفانيًّا لا يخفى على أحدٍ في كتاباتي ، وإنِّي على مذهبه في إيماني بوحدة الوجود، وهو بالمناسبة مفهوم كونّي متبلور في الحكمة الخالدة لشعوب تؤمن بديانات شتى منها مفهوم الأدفيتا الهندي.
· بالعودة إلى "الفن البصري " ؛ نعلم أن لك العديد من اللوحات التشكيلية المميزة، ألا يكفيك الشعر كنوع إبداعي لشغب التمرد وفرح البوح وشطحات الذاكرة في انفتاحها على العالم!؟
فنون الحياة لا تنفصل عن بعضها البعض، فالتشكيل كالشعر من صنوف تجليات مسرى الوجود وموسيقاه، والرسوم تنزاح بالناظر الى بُعدٍ جديد لا تقف عن تخوم الألوان وأبعادها بل تلامس حدود الموضوع أيضا. وأعمالي التشكيلية محاولة لتقديم "اللامرئي" ببعد غنوصيّ عرفاني لذلك فهي رسومات طفولية الشكل وان كانت تحمل دلالات عميقة .
· هل هناك ترجمة للكلمة عبر اللوحات التي ترسمينها ؟؟ أم أن الريشة تعري ما أخفاه قلمك؟!
عند المقارنة بين خواطري الواردة في "معابر الروح" أو في "لوامع النقط " وبعض اللوحات التجريدية، نجد تناصٌ بين النص المكتوب خاطرة والنص المرئي تشكيلا، فدلالات (العين والغين) جُسدَت في اكثر من لوحة حين تضمحل نقطة الغين لتنكشف حقيقة العين….
كما أن للدائرة حيزّ كبير في القصائد واللوحات على حدٍّ سواء، كون الدائرة لها محور مركزي يوجد الكل فيه وتشتمل على الاضداد….ان مركزها رمز "الوحدة" التي تنعدم معها الفوارق الوجودية وتنحلّ فيها كافة التناقضات كما أن اتساعها يشمل الكثرة اللامتناهية .
· أخيرًا ، كيف تنظرين إلى القصيدة النسائية في العالم العربي بوصفها تعكس بُعدا نضاليا وتحمل همَّ النساء العربيات ورغبتهن في تحقيق المزيد من الحقوق التي يحتكرها الرجل عادةً؟
لا أريد أن أقيم عمل أحد فلست أهلا لذلك، ولن أتناول نقد البنية اللغوية أو حتى الشعرية التي هي من عمل أهل الاختصاص من هذا العلم … أما من ناحية مضامين الموضوعات فإن غالبية ما وقعت عيني عليه من كتابات "نسائية " وحتى "رجالية " تدور في فلك الأنوية للتجمعات الذكورية السلطوية القائم على مبدأ الفصل التام بين وحدات المجتمع الانساني، حيث الصورة مرتكزة عبر المتعة العينية البصرية التي تكرس الاستهلاك الذكوري عبر مقارنات محمومة تتمحورعلى التناظر والصراع الأنوي المفتعل في المجتمع التقليدي.. فتكون فيه المرأة إما الملاك المنزه أو العاهرة الخائنة أو الكائن المقهور المعذب….
المرأة تُقَدّم دومًا على انها الكائن المجتمعي الذي يتشظى في دوامة النزاعات……
انها كتابات أشبه ماتكون "بالشحاذة " الحقوقية و"الاستجداء" المعنوي تسعى من خلفه المرأة الى ان تصل لمكان تعتقد انها "حققت شيئا" ….!
· ولكن أليس من واجب المرأة أن تسعى لكسب مزيد من حريتها ؟
الحرية قبل كل شيئ مسألة إنسانية كونية وليست همًّا "نسائيًا"، عندما يكفّ الإنسان عن المقارنة بكل أشكالها سينعتق، لأن المقارنة وقود الصراعات، فالحرية ليست مرتبطة بالامتيازات "المادية الخارجية" … إنها وعي كونية الذات الانسانية لكونيتها الموجودة أصلا…
إنها ذاتية المنبع… دائمة الوجود… بعيدة عن كل أشكال الصراعات…
فالانسان الحرّ هو ذاك المنعتق من أسر كلّ نزاع وكل خوف، فالحرية أمر غير مكتسب… وربما مقولة "ان على المرء ان يناضل من أجل اكتساب الحرية " تحمل الكثير من المغالطات!
الحرية كالهواء موجودة وما علينا سوى أن نستنشقها، ولسنا بحاجة لاستجدائها من أحد، وليس الانسان الحر بحاجة لاعتراف الآخرين بحريته!
فكم من "أسير" خلف القضبان قابع وهو على الحقيقة حرّ طليق! وكم من "طليق" يمشي في الأرض مرحًا وهو على الحقيقة عبدٌ ذليل !
الحرية حالة ذهن خالٍ من النزاع !
*****
مقدمة ديوان "لوامع من بقايا الذاكرة" – مروة كريدية
أُغْنِيَة اللَّوَامِع
للعَاقِلات المُتفَتِّحة الانسانية مِنِّي " لَوامع مِن بَقَايا ذَاكِرة"… تُطلُّ إلى الأبديّة… وتَخطُّ شَاخِصَات عَلى دُروب الحَياة…
تُفْصِح مِن خلالِهَا رُوحِي، عن بَعض تَجَاربها المُعمَّدة بجمال الواجد وبهائه. …
بعضها بسيط عفويّ، وآخر يَعبر إلَى ما ورائيات الوَرَى…
بعضها واكب ذَاكرة الوقائع، وآخر رصد لَوامع تيَقُّظ تفنى بها الذّاكرات الماضية
*****
مقتطفات من محاور الديوان وقصائده
خواطر اللوامع في ثلاثة قطوف تَمحورت :
" عَنقاءُ الَمَدائن …. لوامِع تسامت فوق الرّماد"
"لَوامعُ النّقط …..في منازل الرّوح"
" لَوَامِع العِشْق …. في حضْرة الأنثى".
وهذه النصوص ليست "شِعرًا " بالمعنى الأدبيّ المألوف، غير أنَّها تَنطوي على إشارات خاصَّة لأهل الإبداعِ من هَذا الفنّ، وهي لا تخلو من "الانحراف اللغوي" لغاية أُرِيدت في "الْمَعنى " …
في " عَنقاءُ الَمَدائن …. لوامِع تسامت فوق الرّماد" كَلِمات نُسِجت من رحم أرضٍ أبَت إلا أن تُبَادِلَ "شرور" بني البشر بِعطاء لامتناهي …
ومن صميم الألَم المُرتَسِم على وجه الانسانية انكفأ عقلي مذعورًا …من هول الحروب والمجازر…. فهبَّت عَنْقَاء السلام مِن تَحت الرَّماد …
فالأرض مازَالت كما كانت تََطوي ذِكرى الحروب تحت شجرة الزيتون …وَ بِجُودٍ لا حدودَ له تُشرق الشمس … والغيثُ من السحاب ينْزِل… والعشب ينمو دون استئذان….
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق