أنيس منصور…. ويبقى المكتوب على القلب
مروة كريدية
عن تاريخ عريض زاخر بالأحداث، وحياة مكتنزة بالعمل والعطاء الإعلامي، رحل عميد القلم والصحافة أنيس منصور، شاهدًا على مراحل مفصلية من أحوال الأمم وزعمائهم، مكتنزًا خبرة قرنٍ بكلّ ثوراته و إخفاقاته، في عصرٍ يُعدّ من أعنف العصور وأكثرها دموية في عمر البشرية.
رجل خَبَر واختبر السياسة وأهلها، ورافق العديد من الزعماء العرب ووقف على أحوالهم، وواكب عظماء الفن والأدب وحاورهم. واستطاع في آنة ما أن يجمع الكثير من المتناقضات بحرفيّة حكيمٍ ، وظَّف حسه الفلسفي الراقي في التعامل مع كبار الساسة، الذي كان شاهدًا على بطشهم كما إنسانيتهم ومواقف ضعفهم. ليغمض عينيه في أوج الربيع العربي بعد هروب بن علي و سجن مبارك وبعد مقتل القذافي بيوم واحد .
التقيته آخر مرة على هامش منتدى الإعلام العربي في الرابع والعشرين من أبريل نيسان من عام 2008، في فندق مونارك بدبي خلال الغداء ، دون تحضير أو موعد مسبق، وكنت قد عدت لتوي من السودان في زيارة لمناطق النزاع في دارفور، ولا زالت منهمكة في العمل حول الملف السوداني وتداعياته، فدار الحديث بيننا بشكل عفوي حول الأوضاع هناك، فيما كنت قد بدأت الدردشة باستفهام يلامس الحكمة متسائلة :" بعد هذا العمر المديد بالعمل الصحفي ومرافقة الرؤساء؛ ما هي النتيجة التي توصلت إليها فيما يتعلق بالجانب الإنساني، لا سيما من واكبت بداياتهم ونهاياتهم ؟"
فأجابني هامسًا:" السياسة لعبة مليئة بالأكاذيب، و السيئ في الأمر أن معظمها صحيح. والموت يضع النهاية للعبة بينما يكملها آخرون " مضيفا: " بعد نهاية اللعبة يوضع الملك والعسكري كما في الشطرنج في علبة واحدة ".
جملة لم ولن أنساها، بل قفزت إلى واجهة ذاكرتي عند إعلان خبر رحيله
جملة بقيت في قلبي وهو الذي قال يوما "سيجف الحبر ويتمزق الورق ويبقى المكتوب على القلب".
وأعود مسرعة لأقرأ عموده الذي اطلعت عليه منذ أيام في جريدة الأهرام بتاريخ 18 أكتوبر وجزعت حينها، إذ يبوح به لقرائه بدنو الرحيل وانه سيخرج من الدنيا دون ان يترك شيئا!
ويقول :(ما الذي خرجت به من هذه الدنيا!؟.. صحيح ما الذي يمكن أن يخرج به الإنسان من هذه الدنيا… والجواب: لا شيء. لأنك إذا قلت أنك (خرجت) من هذه الدنيا بشيء فأنت لا تعرف ماذا تقول. لأنه لا أحد يخرج منها بشيء. فالذي يموت لا يترك شيئا لأحد.. لأنه بعد وفاة الإنسان لا أحد.. فكل الناس بعده لا شيء أيضا..
وإنما الذي يحدث هو أن الإنسان كما دخل الدنيا سوف يخرج منها.. كان وزنه ستة أرطال وسوف يخرج منها ووزنه ستون رطلا. دخلها سليما وخرج منها مريضا. أو تقول لنفسك: كل هذا التعب والعذاب في الدنيا والنتيجة ماذا ؟ لا شيء")
و من باب التقدير لمسيرة رجل حكيم أقول: لقد تركت في الإنسانية بصمة فارقة أقلها ما كتب من محبتك في قلوب الكثيرين…. وما كُتب في القلب سيبقى !
فإلى روحك في عليائها المجد والراحة.
***
واني أترك للقارئ بعضًا من الدردشة العابرة عن الشأن السوداني التي حصلت في ذاك اليوم قبل ثلاثة أعوام ونيف ودونتها في قصاصة ورق عند عودتي إلى بيتي ذاك المساء انشرها للمرة الأولى :
ما رأيك بالوضع في السودان ؟
"شوفي اللي حصل في بلدك لبنان.. وشوفي اللي حصل في العراق… وده اللي حيحصل في السودان ( وهذا ما سيحصل في السودان – يقصد الحرب الأهلية ) … أميركا تريد أن يكون لها نفوذ في أفريقيا "
لماذا نحن العرب دائما نتهم الآخرين بالتآمر علينا.. أليس من حق الجنوب السوداني أن ينعم بدولة ديمقراطية ؟
" أكيد من حق الشعوب أن تختار حريتها واستقلالها وكرامتها… ولكن الخوف أن يتحول الشرق الأوسط إلى فتافيت لا تزيد مساحة كل فتفوتة على مساحة إسرائيل"
هل ترى أن انفصال الشمال عن الجنوب بات وشيكا ؟
" انه أمر طبيعي جدا.. والسبب انه الرئيس عمر البشير لم ينظر بواقعية إلى ما يحصل في الجنوب كذلك النميري من قبل "
ألا تعتقد أن اختلاف الأعراق يلعب دور أيضا في تأجيج الصراع.. وان هناك نوع من التمييز يُمارس ؟
نعم .. أبناء الجنوب لا يلقون نفس العناية التي يلقاها أبناء الشمال. وإنما يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية وقد سنحت لهم الفرصة لأن يجاهروا برأيهم الآن. ويقولوا أن النظام يتعامل معهم بعنف. واني أرى أن الجنوب سينفصل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق