ثقافة الديموقراطية في عراق التغيير مروة كريدية : المواطنية هي جهاز مناعة الدول والطائفية السياسية هي الفيروس المدمر لهاالديموقراطية والمواطنية متلازمتان بشكل مباشر مع قانون محاسبة المسؤول
أجرى الحوار – عثمان أوميد· منذ مطلع عام 2000 ونحن نشاهد تغييرا في المشهد الديموقراطي إلى أي حد ساهمت روح العصر في إحداث هذا التغيير ؟
لا شك في أن القفزة النوعيّة، في عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصال السريع، ساهمت في زعزعة ممالك الأنظمة الشمولية التوتاليتارية المنتشرة في العالم، لاسيما العربي منه، وفتحت الآفاق أمام الشعوب للاطلاع على المعلومات كافّة، بما فيها السياسية بطبيعة الحال، فلم تعد الأنظمة الرسمية هي مصدر المعلومات الوحيد، بل على العكس فإن وكالات الأنباء الرسمية في هذه الأنظمة لم تعد تلقى أي متابعة شعبية على الاطلاق.
من ناحية ثانية فإن الطفرات الاقتصادية العالمية الأخيرة جعلت من المتعذر على السلطة المركزية أن تبقى المخطط الوحيد للرعية ما لم يشارك هؤلاء أو لم يشعروا بأنهم معنيون بخطط التنمية، وهو ما يُعرف بقوة التمكين Empowerment أو Capacitation؛ إذن فالمتغيرات العصرية تفرض اليوم على الدول خيار الديموقراطية المبنية على مواطنية حرّة.
· يرى البعض بأن هذا الخيار الديموقراطي من شأنه أن يُحدث فوضى وبلبلة في الدول التي اعتادت على سلطة الرجل الواحد ، كيف ترين ذلك؟
إن الديمقرطية السليمة هي أكثر من أبنية ومؤسسات، إنها تعتمد بالدرجة الأولى على الخلفية الفكرية والثقافية المبنية على تطوير ثقافة ديمقراطية ومواطنية. … لا يمكن لنا أن تكلم عن ديموقراطية في ظل غياب المواطنية … فإن الانسان هو محور العمل الديموقراطي ولذلك نحن نحتاج بالبداية لبناء ثقافة الديموقراطية .
وفي هذا السياق فإن الثقافة المقصودة، بالمعنى العام، ليست مجموع الآداب والموسيقى والفن …الخ، وإن كانت هي أمور تعد من الثقافة، بل تعني كافة التركيبات الثقافية والمرتكزات المؤسسة للسلوك والتصرف والممارسات والأعراف التي تتبلور من خلالها قدرة الأفراد الناس على أخذ قراراتهم وحكم أنفسهم بأنفسهم وتحمل تبعات ذلك. فالثقافة، بهذا المعنى، تعني الوعي المجتمعي والخلفية الذهنية والفكرية المحركة للسلوك عند الأفراد والمجتمعات.
لذلك نجد أن الأنظمة، التي تكرس سياسة العقل الواحد، إنما تشجع الثقافة القائمة على الإذعان والخنوع والطاعة العمياء لما يسمى بـ"الزعيم" أو "ولي الأمر" …الخ، وذلك بهدف تنشئة أفراد تسهل قيادتهم ويكونوا طيعين، فنجد أن القمع مرتكز أساسي في التربية والقيم داخل تلك المجتمعات، مستخدمين لأجل تكريسه كل المفاهيم المؤدلجة بما فيها النصوص اللاهوتية.
وعلى نقيض ذلك فإن ثقافة المواطنية في مجتمع ديمقراطي تشكل بالفعل النشاطات التي تنمي عملية صنع القرار عند الأفراد من جهة وتحترم خياراتهم من جهة أخرى.
فالمواطنون في مجتمع حر يعملون لتحقيق أهدافهم ويمارسون حقوقهم ويتحملون مسؤولية حياتهم وخياراتهم، إنهم يقررون بأنفسهم من ينتخبون في صناديق الاقتراع، وهم يعون أبعاد البرامج التي يطرحها المرشح الذي ينتخبونه، ومن ثم فهم يحاسبوه على ما أنجز من التزامات تجاه من منحوه أصواتهم.
للأسف ، ما نراه اليوم في الانتخابات محزن لأنها قائمة على المحسوبيات الطائفية !
· إذن أن تربطين بين مفهوم الديموقراطية والمواطنية كيف ترين الديموقراطيات الناشئة في المنطقة ؟
هناك أمر غاية في الأهمية، وربما يعد قضية محورية في الموضوع، وهو أن المواطنية هي جهاز مناعة الدول بالدرجة الأولى والطائفية السياسية هي الفيروس المدمر لها.
فعندما يكون الولاء السياسي لرعايا دولة ما للطائفة على حساب الوطن فإن التدخلات الأجنبية في السياسة الخارجية ستأخذ مداها الدراماتيكي، وستؤدي إلى انفراط عقد الدولة نفسها التي تتحول إلى ممالك هشة تتلاعب بها القوى الاقليمية وتتحول إلى ساحة لتصارع النفوذ الدولي على ساحتها. وربما الوضع العراقي كما اللبناني خير شاهد على ذلك .
أسألك أمرا : من يحاسب الفاسدين اليوم في العراق ؟؟؟! ألا تلاحظ أن الفساد مستشري وهناك غض نظر عن الموضوع ! لماذا ؟ السبب من وجهة نظري غياب المواطنية …
الديموقراطية والمواطنية متلازمتان بشكل مباشر مع قانون محاسبة المسؤول على كافَّة الصُعد، وهما متلازمتان مع مبدأ تكافؤ الفرص، لذلك فإنهما تتلازمان مع تمثيل شعبي حقيقيّ، وما تنتجه الانتخابات الحالية هو نظام شبه أوتوقراطيّ، تكون قرارات السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية فيه رهن باتفاق أصحاب المحادل الانتخابية.
فالمواطنية هي من صميم الإرادة الحرة والحرية الفردية، وهي بشكلها البراغماتي اتقان مهارة صنع القرار؛ وهو أمر تربوي ثقافي يبدأ منذ الصغر في المناخات البيتية والمدرسية ويمتد إلى سائر مؤسسات المجتمع التي تعتبر أن الاختلاف حق مشروع للكائن، وأن خيارات إنسان بحق نفسه ليست خيارات ملزمة بحق الآخرين، وفي هذه المجتمعات يكون "الدين" مجرد علاقة روحية حميمية بين الإنسان وربه لا يتدخل فيها أحد، ومن حق كل كائن أن يعبر- أو لا يُعبر - عنها على طريقته وبالشكل الذي يختاره ويريحه، ويصبح دور المرجعيات الدينية دور تنويري يحترم الاختلاف ويعزز الحريات الدينية في أجواء تسود فيها الديموقراطية الروحية أو حريّة الروح كما أحب أن اسميها.
· كيف يمكن أن نبني المواطن في المجتمع العراقي المتنوع ؟
الامر يكون عبر بناء الوسائل العمليّة لدعم المشاعر الوطنية المشتركة بين جميع الطوائف والأعراق والمذاهب والتيارات والأحزاب، تكون بمثابة الحصن الثقافي الحامي لمبدأ المواطنية، ووعاء قابل لاستيعاب التبعات القانونية والسياسية للمواطنة
لا بأس في أن تنعم كل مجموعة بخصوصياتها فالوحدة الوطنية تكون بدعم التعددية بوصفها إثراءًا للتجربة الانسانية و دعم التنوع الثقافي وحرية الرأي والتعبير
بدون شك هذا الامر لا يتحقق إلا من خلال آليات تترجم عمليًا عبر إعداد قادة ونخب فكرية ومراكز بحوث ودراسات تساعد في ارساء المفهوم الكوني المنفتح للإنسان.
كما ان من واجبات النخب دعم الخطاب الإعلامي المنفتح، وتشجيع الكتّاب والمفكرين والأدباء الذين يتبنون أفكار تساهم في إرساء فلسفة التسامح والانفتاح.
· تتحدثين عن النخب ودورهم في ترسيخ الديموقراطية ولكن كما هو معلوم فإن كثير من هؤلاء ما يكونوا تابعين لمرجعيات روحية تتحكم بهم ، من أين تكون البداية ؟
البداية تكون من "المدارس" وعبر التربية لذلك يجب إعداد خطة تربوية لتنقية الكتب الدراسية من كل ما من شأنه إثارة النزعات الطائفية والمذهبية، دون أن ذلك يمس بحرية التعليم أو يحط من شأن طائفة معينة ويطعن في معتقداتها، مع ضرورة تسليط الضوء على تاريخ الليبراليات والحريات والديموقراطية في محاولة لبناء تربية مستدامة قوامها المشاركة العامة والتعاون وبناء الوطن.
والتنسيق مع المراجع الدينية والطائفية كافة لبناء خطاب وطني خال من شحنات التحريض والكراهية ضد الآخر، واستبعاد كل ما يدعو فيه إلى التعصب، وضرورة إحداث تجديد في مستوى الخطاب الديني، وليس المقصود هنا الخطاب المعلن في المنابر والكنائس وحسب بل الخطاب المؤسِّس للممارسات الدينية. فتجديد الخطاب الديني يعني إعادة قراءة النصوص اللاهوتية المؤسسة للأفعال وتقديم رؤية منفتحة تتلاءم مع العصر الراهن.
· في ظل الحروب الأهلية تنعدم الثقة بين أبناء الشعب الواحد كيف يمكن إعادة بنائها ؟
بناء الثقة وعدم التخوين بين أفراد الشعب الواحد يتطلب قبل كل شيء، بناء ذاكرة جماعية وطنية تنبذ العنف والعنصرية وتحذر من مخاطر الانقسام، وفوائد التضامن، والتحذير من خطورة تكرار التجارب العبثية والحروب الأهلية بحيث يتولد عند الأجيال "توبة" تجاه الصراعات الدموية، من خلال ترسيخ المبادئ العامة للحريّات وحقوق الإنسان وحمايتها، وأن يضمن ذلك الدستور كما أقرته المواثيق الدولية وشرعة الأمم المتحدة، وأن يُصاحب كل ذلك توسيع الأمل وترسيخ ايمان عميق بضرورة التغيير والاصلاح والقدرة والإرادة الكامنة بأن الوضع ليس ميؤسًا منه.
ويساهم في ذلك إعادة قراءة جادة للسياق التاريخي الحضاري للمجتمع والوطن من خلال امتداداته الثقافية، ومن منطلقات إنسانية تدافع عن الإنسان وحقوقه وحريته وتحترم التنوع وحقوق الاقليات في المجتمع .
تعد الكاتبة مروة كريدية واحدة من المهتمات بالقضايا الإنسانية واللاعنف، حيث تطرح العلاقات الاجتماعية والسياسية من خلال رؤية وجودية تتجاوزالانقسامات الاثنية والدينية والجغرافية، وقد عملت في ميادين فكرية متنوعة، ولها العديد من الابحاث الميدانية في علم الاجتماع السياسي. شاركت في أعمال حوار الاديان واللاهوت المقارن.
مجلة الاسبوعية العراقية – عدد رقم 111 - الصادرة بتاريخ 28 شباط فبراير - 6 مارس 2010 - ص:32-33
****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق