البيت الدمشقي متحفٌ مسكون بعشق الحضارة وروعة الفن
مروة كريدية من دمشق
في قلب مدينة تعشّقت حضارةً وتاريخ ومن داخل أسوارها القديمة يتراكم ارثٌ ثقافي يشهد على قرون خلت وامبرطوريات سادت ثم بادت ؛ إنها دمشق ، تلك المدينة القديمة والصبيّة في آن معًا؛ مدينة الرمز والهوية لأجيال تعاقبت وأحداث توالت …
ومن قلب السور خلف الابواب، حارات واسواق وحمامات تنبض حياة وحركة؛ كثيرة هي حارات دمشق القديمة، وفي حيّ بالقرب من القيميرية ، دخلنا نستطلع البيوت الدمشقية في أجواء تراثية نابضة تحاول مقاومة الزحف العمراني الحديث، فنسمع همس الجدران يئن تاريخًا شارف على الاندثار؛ فهنا بيوت عتيقة تحاول ان تحفظ جزءا من حضارة شاهدة على عمق المكان والانسان .
خلاصة الفن العربي في الحقبة العثمانية :
يعد البيت الدمشقي نواة دمشق و وحدتها الأساسية، وقد تحول العديد من هذه البيوت الى متاحف و مطاعم ، واماكن يرتادها السواح ، ومنها بيت آل العظم الذي حُوّل الى متحف ، وبيت النعمان عند باب شرقي الذي أسس عام 1865، وبيت جبري الذي حول الى مطعم تراثي .
وتعود أغلب البيوت الحالية الى الحقبة العثمانية وهي لا شكل خارجي جذّاب لها، بل هي كالدّرة المكنونة لا تدرك جمالها الى من الداخل، فحتى الشرفات تتجه الى صحن الدار ، فيما الشبابيك الخارجية المطلة على الحارة تكون قليلة مقارنة بالنوافذ الداخلية المطلة على باحة المنزل، وهي مغطاة بما يعرف بالمشربيات التي تحجب سكان البيت عن أعين الفضوليين، وتكريسًا لفلسفة الستر التي تميزت بها العائلاتالدمشقية القديمة، حيث ان المرأة لا تكاد ترى رجلا او تختلط به .
فالبيت يُقام لساكنيه وهو عالي الجدران خارجيًّا منفرج القلب داخليًّا ، تتوسطه باحة كبيرة تعرف بأرض الديار ، تتمركز وسطها نافورة ماء تدعى البحرة ، كما تظلل الباحة اشجار الليمون والياسمين والريحان، ويتصدرها ايوان وصحن مزين بالاقواس وغيرها من العناصر الفنية الجميلة .
ويتكوّن البيت الدمشقي عادة من طابقين، فيما يتزين بالفنون العربية الارابيسك، فتعلو جدرانه الآيات القرآنية والحكم المزخرفة من الفضة والنحاس والصدف والمزاييك والفسيفساء …أما الاسقف فبعضها جداريات جميلة، وبعضها خشبي يأخذ اشكالا هندسية منمقة تتدلى من وسطها ثريات بلورية راقية ، الملفت للنظر ان الكثير من الزخرفات تحتوي على النجمة السداسية التي تعرف بنجمة داوود مما يشير الى ان المسلمون استخدموها في فنونهم وتراثهم دون ان تثير لهم حساسية عقائدية او ثقافية .
بيت جبري نموذج حيّ للأصالة :
وفي منطقة القيميرية المحيطة بالجامع الاموي دخلنا زقاق الصوّاف الموازي لسوق مدحت باشا، وقفنا امام بيت جبري القريب من قصر آل العظم المشهور؛ وبيت جبري يُعد من اقدم البيوت الدمشقية حيث تم بناؤه عام 1737م، وبالرغم من تحوله الى مطعم و مكان عام، الا انه حافظ على اصالة البيت الدمشقي، والتقسيم المميز له، وهومكون من طابقين و23 غرفة مع البهو الرئيسي، فيما البحرة الشامية والليوان يعطيان للمكان اللمسة الأثرية ، والبيت باكمله مزين بالفسيفساء والموزايك الشرقي التقليدي الساحر .
إيلاف التقت الأستاذ رائد جبري في محاولة للاطلاع على قصة البيت التاريخية فقال : جدي محمد طلعت بن نعمان آغا جبري اشترى هذا البيت من السيد درويش أفندي و هو والد الشاعر و الكاتب شفيق جبري شاعر الشام. وقد عاشت العائلة بهذا البيت منذ عام1905م و حتى عام 1977م.
وفيما بعد اضطرت عماتي لمغادرة البيت وهجره لعدم تمكنهن من خدمته وتنظيفه بسبب تقدمهن بالسن، فطوت السنين عليه و استسلم البيت لسنين الهجر فأخذ يتصدع و تنهار أجزائه.
ويتابع السيد جبري قائلا : لم يتفق ورثة البيت الكثيرون على ترميمه ، فيما كانت ذكريات طفولتي تطارد مخيلتي حيث ظلت معلقة على أغصان أشجاره وعلى نوافذه و على الياسمين، و منذ ذلك التاريخ و الحلم لا يفارقني.. لقد صممت على إنشاء شيء ما بهذا البيت الذي ما دخله إنسان إلا وانبهر به، فأصبحت حائر بأمري لا أدري ما أفعل! بين يدي ثروة أثرية فنية لا أدري ما أفعل بها, فقررت تحويله إلى مطعم للحصول على المورد لأتمكن من ترميمه و فتحه للناس ليتمتعوا به. ولقد أردت أن يظل الداخل إليه يحس أنه مازال بيت دمشقي قديم وليس بمطعم عصري
رائد جبري رافقنا بجولة ميدانية داخل البيت حيث يوجد قاعة اطلق عليها صالة الشاعر شفيق جبري ، وقد وظف البيت للثقافة أيضًا فهناك قاعة مخصصة للمعارض الفنية ومكان لاقامة الندوات و الأمسيات الشعرية و الموسيقية .
وتزامن وجودنا مع حفل تدشين قاعة داخل البيت لغير المدخنين، في اطار حملة تنظمها وزارة الصحة لمكافحة التدخين برعاية وزير الصحة السوري ماهر الحسامي ، وبالرغم من اضرار التدخين الى ان الأركيلة تُعد من أعرق المميزات التراثية ومقومات الفلكلور الشعبي الشامي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق