شاهد على شعوبٍ سادت ثمّ بادت
إهمالها مسؤولية من ؟؟
مروة كريدية –
مدينة مروي - السودان - البجراوية
انطلقنا صباحًا من العاصمة السودانية الخرطوم متجهين شمالا إلى منطقة البجراوية، حيث توجد مدينة مَروي التي تنتصب أهراماتها شامخة على حضارة عريقة قدم القارة السمراء نفسها .
الطريق الى البجراوية تبعد حوالي 213 كلم نحو الشمال، وهي تمتد وسط مساحات شاسعة من التربة الحمراء وأشجار صلبة تقاوم حرارة الجو وجفاف الأرض .
لدى وصولنا الى المنطقة الأثرية طالعتنا لوحة صدئة أكل الدهر عليها وشرب كُتِب عليها : وزارة البيئة والسياحة، الهيئة القومية للآثار والمتاحف، اهرامات البجراوية .
الباعة يفترشون الارض عارضين بضائعهم من الحلي القديمة والتذكارات من الصناعات المحلية اليدوية، من الخناجر والسيوف ونماذج صغيرة من الاهرامات المصنوعة من الطوب والآلات الموسيقية التقليدية ، فهم يتحينون وجود بعض الوفود السياحية والزوار لبيع منتجاتهم .
استقبلونا بطيبة سودانية بالغة وقاموا بعرض رقصاتهم النوبية التقليدية على ايقاع ادواتهم الموسيقية التقليدية ومنها آلة وترية تشبه الى حدّ بعيد العود .
عائشة محمد بائعة في هذا المكان منذ ان كانت صغيرة، وقد ورثت هذه المهنة عن والديها،اخبرتنا انها تبيع التمائم و الحلي لمرتادي المنطقة ، واشتكت من قلة السياح و ضيق الحال حيث يمر اسبوعًا كاملا دون ان تبيع شيئًا ، واشارت الى ان الاجانب من أعضاء البعثات التابعين للمنظمات الانسانية في السودان يحرصون على الاطلاع على الاثارات التاريخية مما يؤدي الى نوع من الحركة الشرائية .
الإهمال واضح في تلك المنطقة حيث تفتقر الى مرافق صحية، فلا يوجد في المكان دورات مياه لقضاء الحاجة ، أو دكان لبيع المياه الباردة و المرطبات، ناهيك عن أن المعلومات حول الموقع غير متوفرة اذ انه يشرف على المكان رجل وامرأة يجلسان في كوخ صغير امام مدخل الاهرامات ان صح التعبير ان هناك مدخل .
دخلت الكوخ اسألهم عن مطوية تعريفية او مرشد يحدثنا عن تاريخية المنطقة ، فاعتذر الرجل عن عدم توفر ذلك مكتفيا بالاشارة الى ورقة علقت على الحائط تتناول معلومات مقتضبة لا تروي عطش من تكبل عناء الوصول الى المكان في ظل الحر الشديد .
وينتشر امام الكوخ مجموعة من اصحاب الجمال الذين يتكفلون بإيصال المرء الى الاهرامات لقاء مبلغ مالي متواضع ، تحدثت اليهم فأخبروني بأن هذه المهنة مصدر رزقهم ، وهي متوارثة أبًَا عن جد في هذه المدينة التي يحفظونها عن ظهر قلب ، وتمتهنها ثلاث قبائل ، وهم : قبيلة الحسّانيّة ، وقبيلة المناصير ، وقبيلة الجعالين .
سليمان المنصوري حدثنا عن علاقته بناقته وجماله، وكيفية تربيتها وتحديد أعمارها، ونوع علفها مفتخرًا بأن ناقته طيعة ودودة وهو يحبّها حبّه لأبنائه فهي تفهم عليه وتخدمه دون تذمر …عارضًا علينا القيام بجولة ، وأخبرنا بأن هذا الوادي يدعى "وادي الطرابيل " مضيفًا ان المعلومات المتوارثة عن الاهرامات تشير الى انها كانت تحتوي على بعض الكنوز والذهب ولكن الانكليز قاموا بسرقته عندما باشروا عمليات التنقيب القرن الفائت… وقد صبّ مرافقنا جام غضبه على المستعمرين…مضيفًا ان الاهرامات الان خالية الا من النقوش الموجودة على الجدران .."
وبالعودة الى المراجع العلمية التاريخية والاركولوجية ، فإن مدينة مروي تُعدّ من اهم المدن التاريخية في أفريقية ، فقد شُيِّدت على موقع سكني مقر الملوك المرويين منذ القرن السادس قبل الميلاد ، وحسب ما يورد المؤرخون فقد انتقلت إليها العاصمة من نبتة عام591ق.م ، وقد عاصرت دولة مروي البجراوية الفرس والبطالمة في مصر. ويوجد فيها نوعان من المعابد.. المعبد الآموني، والمعبد المروي.
وتبلغ مساحة المدينة مابين 30 و50 هكتار، و يبلغ مجمل عدد الاهرامات 57 هرمًا من جملة اهرامات اخرى ، وقد تم اكتشاف خرائط الشكل الهندسي للهرم داخل الهرم الذي يُعرف "هرم ذو الطرف المسطح
" حيث وجدت داخل الغرفة رقم 8 ، وتشتمل مروي على المدينة الملكية ومجموعة من الاهرامات التي تحتوي على المدافن تُعرف بالاهرامات الجنوبية والاهرامات الشمالية والأهرامات الغربية.
الأهرامات الجنوبية : تقع على بعد أربعة كيلو مترات الى الشرق وعلى حافة سلسلة من تلال الحجر الرملي وهي الأقدم زمن سلالة الملوك المرويين في الفترة مابين 720 ق م – 300 ق م وهي تعد الاهرامات الأولى التي بُنيت في مروي متبعة بذلك تقاليد الدفن الملكي من نوري وجبل البركل وتشمل على مقابرالملوك وملكات مملكة مروي.
الأهرامات الشمالية: وتقع الى الشمال عبر الوادي وقد بدأت هذه المجموعة كجبانة ملكية حوالي 270 ق م وتحتوي على مجموعة مدامن واهرامات ملوك امتدت حتى 330 ق م
الأهرامات الغربية : وتقع في المنطقة المنبسطة من مدينة مروي بين الجبانة الاهرامات الجنوبية والأهرامات الشمالية ، وهي إهرامات صغيرة الحجم لرجال البلاط الملكي والوزراء كما توجد بقايا معبد الشمس .وقد بدأ الدفن فيها بالتزامن مع الدفن في الاهرامات الجنوبية واستمر حتى نهاية مملكة العصر المروي
جبل البركـل ( جو- رعب ) : وكان يسمى بالجبل المقدس كما جاء في المصرية القديمة (جو- رعب) أي الجبل الطاهر وهو من أشهر المواقع الأثرية في السودان، ويعود للفترة النبتية ويعتقد بأنه كان العاصمة الدينية ، يقع عند مدينة كريمة ويعتبر مقراً لعبادة للإله "آمون " ، إذ يشمل معابد لآلهة متعددة بنيت على الطراز الفرعوني وأشهرها معبد " الإله آمون" الذي مازالت بقاياه تدل على عظمته ومدى الإهتمام به. كما يوجد معبد "الإله موت" بجزئه المنحوت فى باطن الجبل. بالإضافة لإهرامات ملوك مروي الأوائل وقصورملوك هذه الفترة، أشهرها قصر الملك " نتكامني". وللموقع شهرة عظيمة غزت أرجاء العالم وذلك لأهميته القصوى في الفترة الكوشية .
وبحسب المؤرخين يرجع تاريخ تأسيس مملكة مروي إلى القرن الثالث قبل الميلاد ما بعد الأسرة الخامسة والعشرين، و كانت تمثل نهضة حضارية بعد ان سادت قروناً من الركود. ولقد بلغت نهضة مروي ذروتها في القرن الأول الميلادي
أي بعد أفول حضارة نبتا بفترة طويلة وبعد انتقال مراكز القوة والثراء في كوش إلى الجنوب ، أما خلال القرنين التاليين للقرن الاول الميلادي فقد بدأت دولة الجنوب طريقها في الانحدار السريع، وسرعان ماتحولت تلك المدينة العظيمة إلى مدينة مهجورة وكانت نهاية الدولة المروية على يد الملك الأكسومي إيزانياس الذي غزا البلاد ودمرها تدميرا كبيرا وذلك في القرن الرابع الميلادي حوالي عام 330 للميلاد .
دخلنا الهرم رقم سبعة وعشرون الكائن في الجبانة الشمالية، فوجدنا بعض اللوحات التي تحتوي على وثائق يدوية تؤرخ لبناء الهرم وترميمه ممهورة بختم كتب بالانكيزية India و توقيع يدوي باسمKurdi ، الوثيقة غير مؤرخة ولكن من مضمونها يتبين بأنها عمرها لا يتجاوز ثلاثين عام وكُتِب فيها :
" بني هذا الهرم من الحجر والطوب الاحمر ؟ فوق غرفة دفن ملك مجهول من ملوك مروي ( حوالي سنة … ميلادية ، وكان الهرم من الداخل عبارة عن حشوة من الأحجار …صغيرة بينما كان عليه في الأصا … ملاط … (بياض ) من الخارج ربما كان يحتوي على رسوم .
قامت بعثة أميركية بقيادة الدكتور رايزنر بتنقيب غرفة الدفن في عام 1921 – 1922 …وجدت خالية من لوازم الدفن غير أنه تم العثور فيها على قليل من الآثار .
وأثناء التنقيب وجد المعبد الجنائزي الذي كان ملحقًا بالهرم من ناحية الشرق وقد تحطّمت جدرانه من قَبل باستثناء الجزء الأسفل من الجدار الغربي الذي لم تُسجل المناظر والنقوش التي كانت عليه آنذاك…
أعادت الإدارة العامّة للآثار والمتاحف القومية تشييد الهرم ومعبده الجنائزي في عام 76 / 1977 حسب المقاسات الأصلية .
ساعدت قطعة حجر أكتشفت حديثًا تحديد شكل الجزء الأعلى من الهرم الذي كان مثبّتًا …في الأصل تمثال صغير (رمز الروح ) … هذا وقد جمع ما تبقى من أحجار المعبد وشُدَّ من حول الهرم ثمّ ركبت كما كانت عليه في الأصل بعد ان تم تصويرها ورسمها …"
الجدير ذكره أن منظمة اليونسكو قد صنفت الحضارة المروية القديمة ضمن الحضارات الانسانية الخالدة وبذلك تعهد المجتمع الدولي برعايتها وصيانة مخلفاتها والحفاظ عليها، وبرغم الاهتمام العالمي بهذه الحضارة التي تعود إلى ما قبل العام (592ق. م) إلا ان اللغة التي وجدت في جدران معابدها وجبانات ملوكها لاتزال لغزا عصيا ولم يتمكن العلماء من فك رموزها وطلاسمها.
غير أن السؤال الكبير الذي يراود الزائر : لماذا الآثار لا تلق عناية او اهتمامًا من الحكومة السودانية نفسها ومن وزارة السياحة المعنية بالامر؟ و لماذا الدول العربية والدول المتخلفة عمومًا تحتاج دائمًا الى المجتمع الدولي و منظمات الآثار العالمية كجواز اعتراف بتاريخها وحضارتها ؟؟ أليس حرّي بنا أن نهتم بشؤوننا ونتحمل مسؤولياتنا الحضارية ؟؟
وماذا ننتظر من كارثة تحل علينا أكبر من اننا نعيش عصر أمّة استقالت من تاريخها وجغرافيتها !
ايلاف -
مروة كريدية –
البجراوية – مدينة مروي - السودان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق