السبت، 30 مارس 2013

Non-Violence and Self control

 غاندي بين القداسة والسياسة

ديمتري أڤييرينوس
Maaber Workshop Program between 10 – 12 July 2009 

 Subject: Non-Violence and Self control
From the 10th to the 12th of July 2009 Maaber  holded its annual workshop at the Village of Marmarita in the Center of Syria, subject of which will be Non-violence, education and Self control 

 أسعد الله صباحكم جميعًا، وأهلاً وسهلاً بكم. مع تكرار اللقاءات هنا يبدو وكأن هناك شعور بأن المكان ذاته يترسخ في نفوسنا، وخاصة بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون معنا هذه التجربة أكثر من مرة. شعوري العميق أن هناك صداقات حقيقية تعقد بين المشاركين، حتى مع عدم إمكانية لقاء بعضنا البعض خلال العام بسبب المسافة التي تفصل أماكن إقاماتنا.
غاندي موضوعٌ من الصعب الإحاطة به تمامًا، إذ دائمًا ما نعود إليه لأنه، كما قالت صديقتنا دارين في مقالتها عن كتاب فلسفة اللاعنف[2]: لأول مرة في التاريخ ينتقل اللاعنف من حالة فردية أو جماعية ولكن صغيرة إلى حركة مساهمة في الفعل التاريخي.
منزلة غاندي تقوم أساسًا على أنه حقق معادلة كانت ممكنة في التاريخ القديم وتكاد تصير متعذرة اليوم: الجمع بين مقامي الحكيم والمرشد الروحي، من ناحية، والرائي السياسي الملهَم، من ناحية ثانية. الرائي هنا هو الإنسان القادر فعلاً على استشراف حركة المجتمع وحركة التاريخ، وفهم كيف يستطيع المساهمة في صنعها وفي توجيه الأحدث عن وعي، رغم ضآلة قدرة الإنسان ودوره في هذا الشيء، بمعنى آخر، مع حفاظه على تواضع كبير بالنسبة للفعل الذي يساهم فيه. كان غاندي نبيًا اجتهد طوال حياته في بلوغ مثال الحقيقة واختباره، هذا المثال انكشف له عبر هندوسية منفتحة على الأديان والملل كافة. وكان لا يني يصرُّ أنه رجل خبرة روحية أصلاً، وليس رجل سياسة. كان يقول: "أنا مثالي عملي"، "أحاول أن أُدخِل الدين في مجال السياسة". - ليس المقصود بالدين الدين وفق مفهوم المؤسسة، بل الدين كخبرة حية، كاختبار روحي شخصي -. لكنه، مع ذلك، كان رجل الأفعال بقدر ما كان رجل التأمل. وهذه الثنوية التي تمكَّن من اجتراح معجزة اختزالها إلى وحدة تستند إلى كشفين حاسمين من الكشوف التي رسمت مسار حياته الداخلية: الكشف الأول، - وصديقنا جان ماري مولَّر تحدث عن هذا الكشف في العام الماضي -، هو "الله هو الحقيقة"؛ والكشف الثاني الأعمق: "الحقيقة هي الله". فالكشف الأول ينفي الحقيقة من العالم إلى المطلق، المتعالي على العالم، بينما الكشف الثاني يعيد الله إلى دروب الحياة اليومية، مثلما يمكن للمرء أن يغرف من ماء الغانج المقدس براحتي يديه، أو أن يعرف بتذوُّقه حبة رز واحدة فيما إذا كان الرز كلُّه ناضجًا أم لا" هذا الكلام لـ (راماكرشنا)، وهو أحد حكماء الهندوس الكبار.
لقد جمع المهاتما في مذهبه الحياتي بين المنظورين الإسلامي، حيث يجمع الله بين صفتي الحق والعدل، والمسيحي، حيث يمكن للألوهة أن تتجسَّد في حياة إنسان فرد. فمن يصبح الحقُّ والعدلُ قوامَ حياته يتألَّه؛ وعلى التبادل، من يتوق إلى التألُّه، مخلصًا للحكمة الأزلية، حيث "لا وجود إلا لله، ولا لشيء سواه" (غاندي، الهند الفتاة)، يجب أن يعمل بموجب الحق (= العدل) وأن يسري في شرايينه شوقٌ لافح إلى إحقاقه.
ولا ينال من منزلته الروحية السامية قولنا إن هذا القديس كان يخفي في جعبته أكثر من سهم. في قيادته البشرَ كان لطفُه ينطوي على عزيمة فولاذية؛ ومع أنه كان لا يلين فيما يخص الأمور المبدئية فإنه كان يتحلَّى بمرونة فائقة في الأمور التكتيكية؛ كان طاهر الطويَّة، لكنه قادر بذكائه على النيل من خصمه في نقطته الأضعف؛ لجوجًا في مطالبته بالحق، لكنه يعرف كيف يتحيَّن الساعة المناسبة للعمل. لقد تسبب تنقُّله تباعًا بين المواقف الوطنية الصلبة والتسويات المرحلية المهادِنة في إحراج مؤيِّديه وفي شماتة خصومه التي وصلت أحيانًا إلى حدِّ تخوين معارضي نهجه له وطعنهم في مصداقية جهاده الوطني. سنتحدث بعد قليل عن أمثلة تظهر كيف أنه، في لحظة معينة، عندما كانت الحركة تأخذ مسارًا معينًا والناس متحمسون لهذا المسار يقرر غاندي، لسبب تكتيكي بحت أو لقرار مبدئي بحت، أن يجعل الحركة تأخذ مسارًا آخرًا. غاندي كان يقول دائمًا: "أنا لا أصغي إلا إلى الصوت الهامس الضعيف في الداخل…"
أحد الحضور: لماذا سماه الهامس الضعيف؟
ديمتري أڤييرينوس: قال غاندي إن الحقيقة، أو الحق أو الله، ساكنة في قلب الإنسان وتكلم ضميره، فإذا كان الإنسان في حالة إصغاء عميق يمكنه سماع الصوت. هذا المفهوم بالنسبة لغاندي ليس مفهومًا مجردًا، فهو يصغي إلى هذا الصوت ولكن في آن معًا هو حاضر في العالم ومراقب لكل تحولات الأحداث من حوله.
ولد غاندي يوم 2 تشرين الأول عام 1869 في بوربندر، البلدة الساحلية في شبه جزيرة كاثياوار شمال مومباي، والإمارة الصغيرة في ولاية كوجارات، حيث كان أبوه كرمتشند غاندي، وجدُّه من قبل، رئيس وزراء راجا (= أمير) على ثلاثة مدن–دول. كانت أسرته هندوسية متديِّنة تديُّناً متشددًا، أي أنها كانت ملتزمة بالشريعة التزامًا كبيرًا، يمكن أن نقول سُنِّياً،…
أحد الحضور: التزامًا وهابيًا؟
ديمتري أڤييرينوس: في الهند يوجد كتاب أساسي للشرائع اسمه قوانين منو، ويعد الالتزام بها جزءًا من الالتزام الهندوسي بالمعنى العام. الجميل في الهند أنه إذا ارتقى الإنسان بوعيه على خصوصية الشكل الديني الذي ولد فيه، بمعنى إذا استطاع رؤية الحقيقة في الأشكال الدينية الأخرى، في التجليات المختلفة للدين، يتضاءل تقيده المحدود إلى درجة أنه من الممكن لهذا الفرد أن يصبح شريعة ذاته. في الهندوسية أربعة طوائف أساسية: طائفة البراهما، وهم القيمون على الدين، طائفة الكاشتريا الذين هم طبقة رجال السياسة والمحاربين، طائفة الفايشيا المخصصة للتجار والصناع، وأخيرًا طائفة الشدرا التي هي طبقة المزارعين…
أحد الحضور: ماذا عن المنبوذين؟
ديمتري أڤييرينوس: المنبوذون خارج الطبقات! غاندي كان من طبقة الفايشيا إذ أن والده كان تاجرًا (اسم "غاندي" يعني باللغة الكوجاراتية "بقَّال"). وقد وصف أمه بكونها امرأة شديدة التقى تختلف يوميًا إلى المعبد.
كان موهن، تصغير موهناس، طفلاً ضئيل الجسم، يمقت الرياضة، متوسط النتائج في المدرسة. واعترافاته، الصريحة صراحة تكاد تكون محرِجة – كما كتب في سيرته الذاتية قصة تجاربي مع الحقيقة، وهو كتاب لابد من قراءته -، تخبرنا أنه لم يكن مستثنى من عيوب الضعف البشري. فقد انتهك، وهو بعدُ صبي، المحرَّمات المفروضة على الهندوس المتشددين بأكله سرًا لحم الماعز. – أكل اللحوم محرم تمامًا في العقيدة الهندوسية. وقد لدى غاندي صديق قال له إنه لكي يصبح قويًا مثل الإنكليز فإن عليه أكل لحم الماعز-، فكان قصاصه كابوسًا مروِّعًا رأى فيه معزاة حية تثغو بإلحاح في معدته. وبمقتضى العرف الهندوسي تزوج في الثالثة عشرة فتاة في سنِّه بدون علم مسبق بالأمر، وظل زوجَ كاستورباي الوفية طوال 62 سنة. لكنه ظل طوال حياته يشعر بالـ"عار" كلما تذكر "شبقه" في صباه. وقد روى في سيرته الذاتية أنه كان في فراشه مع كاستورباي عندما توفي والده – وهي "وصمة لم [يـ]ـستطع أن [يـ]ـمحوها أو [يـ]ـتناساها قط".
كان طموح موهن الفتى أن يدرس الطب، لكن بما أن هذا كان يُعتبَر تدنيسًا لطائفته – ذلك أنه، حسب قواعد الشريعة، لا يجوز له لمس الجسد البشري أو العبث به - فقد أصر عليه أبوه أن يدرس الحقوق.
ذهب غاندي إلى إنكلترا للدراسة في أيلول 1888. مكث في لندن مدة ثلاث سنوات، طالبًا معوزًا يحضِّر لإجازة في الحقوق ويجتهد في الالتزام بنذره في عدم مساس اللحم والخمر والنساء. فقبل أن يغادر الهند، وعد أمه بأنه لن يقرب اللحم، فصار نباتيًا متحمسًا في غربته أكثر منه في الوطن. - في الواقع، انتسب إلى جمعية النباتيين في لندن، وكان أحد روادها، وبعض أصدقاءه النباتيين أصبحوا فيما بعد أصدقاء طريق - اطَّلع آنذاك على الإنجيل، فأخذت موعظة المسيح على الجبل بمجامع قلبه. وقرأ كتاب توماس كارلايل في البطل وعبادة البطولة، وأعجِب من خلاله بخصال نبي الإسلام أيما إعجاب. كما تعرَّف إلى صديقين ثيوصوفيين أقرأاه الـبْـهَـكَـفَدغيتا، كتاب الحكمة الهندوسية الخالد (القرن الثالث ق م)، الذي اعتبره غاندي بمثابة قاموسه الروحي الرئيسي والمرجع الذي ظل يستلهم منه أفكاره حتى استشهاده.
- الـبْـهَـكَـفَدغيتا هو عبارة عن حوار بين كريشنا الذي هو بنظر الهندوس تجسد الألوهة على الأرض، وأرجونا الذي هو المحارب المرغم على خوض حرب ضد أبناء عمومته. يجب أن نفهم أن كريشنا هو الجانب الإلهي في الإنسان وأرجونا هو الجانب البشري. كريشنا هو فردية الإنسان، الروح الخالدة فيه، وأرجونا هو الإنسان الخائض في معترك الحياة، والذي هو بحاجة إلى بوصلة ترشده. هناك آراء أخرى في الهندوسية تقول بوجوب أخذ القصة على المحمل الحرفي، أي أن أرجونا كان فعلاً في موقع قتال. غاندي قال عن هذا الإشكال إن المعركة المذكورة هي معركة الإنسان في الحياة والتي لن تحل، والمشكلة هي أن العنف هو عنف موجه ضد أخي الإنسان في كل لحظة، والحل هو إمكانية رؤية كريشنا ليس فقط فيَّ أنا بل في كل إنسان. كريشنا يقول في الكتاب: أنا القاتل والمقتول وأداة القتل. -
في لندن أيضًا قرأ مفتاح الثيوصوفيا للسيدة بلافاتسكي الذي دفعه إلى التعمُّق في الهندوسية ورسَّخ فيه قناعة بأن الأديان، وإن اختلفت في تجلِّياتها التاريخية، فهي واحدة في ينبوعها الأصلي.
في 10 حزيران 1891 رُسِمَ غاندي محامياً وعُيِّن في محكمة الاستئناف، فأبحر عائدًا إلى مومباي. لدى عودته إلى الهند بحث غاندي عن فرصة عمل مناسبة تسمح له بممارسة المحاماة وبالمحافظة، في الوقت نفسه، على المبادئ التي نشأ عليها. كانت بداياته صعبة، زاد من مشقتها حياؤه الشديد واستقامته القصوى؛ لذا لم يصب إلا نجاحًا محدودًا في ممارسة المحاماة في راجكوت ومومباي، ثم خدم لفترة وجيزة محاميًا لأمير بوربندر.
تسنَّى لغاندي عام 1893 أن يذهب إلى جنوب أفريقيا ممثِّلاً قانونيًا لأصحاب شركة مسلمين في قضية تعويضات عن خسائر في بريتوريا، عاصمة الترانسفال في اتحاد جنوب أفريقيا. ما كان للوضع في جنوب أفريقيا، في تلك الفترة من الطفرات الاقتصادية التي تحتدم فيها الصراعات الاجتماعية والعرقية، أن يترك غاندي غير مبالٍ. هناك بدأ المحامي الحَيِيُّ الشاب باكتشاف نفسه. فبينما كان مسافرًا ذات مرة في مقصورة درجة أولى في ناتال أمره رجل أبيض بالمغادرة. امتثل غاندي للأمر ونزل من القطار، ثم وصرف الليلة كلها في محطة قطار متفكِّرًا، وخرج عازمًا على العمل على استئصال التمييز العرقي. لقد راعته كيفية معاملة الجالية الهندية التي كانت آنذاك تعاني التمييز نفسه الذي يعاني منه سكان البلاد الأصليين السود، فشنَّ حربًا لا هوادة فيها على صعيدين: صعيد العمل السياسي، وصعيد الجهاد ضد المظالم الاجتماعية، مطالبًا للهنود بالاعتراف بالحدِّ الأدنى من الكرامة الإنسانية والمدنية، محاربًا التمييز بوجوهه القانونية والاقتصادية والاجتماعية (يصحُّ هذا أيضًا على جهاده اللاحق في الهند). وهذه القضية استبْقته في جنوب أفريقيا ليس سنة، كما كان يفترض، بل حتى عام 1914.
بعيد حادثة القطار دعا غاندي إلى عقد أول اجتماع لهنود بريتوريا حمل فيه على نظام التمييز العرقي. وقد أصاب، بترافعه عن قضية الهنود المظلومين في الناتال والترانسفال، نجاحًا ملموسًا أمام المحاكم. وفي عام 1896 ذهب إلى الهند ليصطحب كاستورباي وابنيه إلى أفريقيا. وقد تسربت أخبارٌ عن خطاباته هناك إلى أفريقيا؛ لذا عندما عاد غاندي إلى جنوب أفريقيا رجمه الغوغاء وحاولوا إعدامه إعدامًا تعسفيًا.
كانت الفترة التي أمضاها غاندي في جنوب أفريقيا من أهم مراحل تطوره الروحي والفكري والسياسي، حيث أتيحت له فرصة تدقيق قناعاته وثقافته الروحية وتعميقها، والاطلاع على ديانات وعقائد مختلفة، ووضع نهج أصيل في العمل السياسي، وتطبيق قناعاته الأخلاقية والسياسية، حتى على صعيد الحياة الأسرية.
هكذا وضع غاندي فنَّ مقاومة جديدًا كلَّ الجدة، يرتكز إلى مقومات روحية واقتصادية وسياسية في آن معًا. ففي عام 1907 حرَّض كافة الهنود في جنوب أفريقيا على تحدي ما يُعرَف بـ"المرسوم الآسيوي" الذي يفرض على كل الهنود تسجيل أسمائهم وبصماتهم في سجلات خاصة. وقد عوقب على هذا النشاط بالحبس مدة شهرين، ثم أُطلِق سراحه بعد أن وافق على التسجيل الطوعي. وقد قرأ وهو يصرف عقوبته الثانية في السجن مقالة الفيلسوف الترانسندنتالي الأمريكي هنري دافيد ثورو (1817-1862) العصيان المدني التي أثرت فيه تأثيرًا عميقًا وعززت قناعته بضرورة رفض الانصياع لنظام جائر. – قانون الضمير أعلى من القانون الوضعي الجائر. والحقيقة هي أن ثورو كان حالة جديدة في الولايات المتحدة لأنه أول إنسان فيها رفض أن يدفع ضريبة للحكومة التي تشن حرب على المكسيك، ورفض أن يدفع ضريبة لحكومة توجد، ضمن قوانينها، قوانين التمييز العنصري. وقد سجن. ولولا صديقه وأستاذه الفيلسوف إمرسن لكان بقي في السجن فترة طويلة -. كما قرأ أيضًا كتاب الروائي الروسي العظيم ليف تولستوي خلاصكم في أنفسكم، الذي رسَّخ معارضته لتبشير أصدقائه المسيحيين (ولاسيما "الكويكرز" منهم)، - يقول تولستوي إن الخبرة الدينية الحية، التجربة الحقيقية، لا يُبشر بها، بل هي شيء يعاش. كان هناك الكثير من أصدقاء غاندي المسيحيين، وخاصة الكويكرز، يحاولون تبشيره، وتولستوي، عبر كتاباته، هو من أقنعه أن هذا بلا معنى. في هذا يقول غاندي ما المعنى من الانتقال من الهندوسية إلى المسيحية مادام الروح الإنساني لاديني. الروح العميق في كل إنسان غير خاضع لأية ديماغوجية دينية، ما يخضع للدين هو الشخصية الظاهرة – ومقالاته التي كان يدعو فيها إلى المقاومة اللاعنفية للسلطة الفاسدة، فكانت بين الرجلين العظيمين مراسلة هامة بين عامي 1909 و1910. قرأ كذلك كتاب المصلح الإنكليزي جون رَسْكن حتى آخر رجل الذي بشَّر فيه المؤلَّف بكرامة العمل اليدوي ونادى بالعودة إلى الروح الجماعية والحياة البسيطة.
نحن نتتبع الآن جملة المؤثرات التي أثرت على غاندي حتى استطاع تشكيل نظرية متكاملة في اللاعنف، وهي:
1. وحدة التجربة الدينية بمعناها الروحي العميق،
2. فكرة العصيان المدني ووضع ضمير الإنسان فوق القانون الوضعي الجائر،
3. تولستوي ومعنى المسيحية الحقيقي كما فهمه، وهو في الواقع اللاعنف بمعناه المطلق،
4. جون رَسْكن الذي حاول إيجاد مفهوم للمجتمع الصغير البسيط المكتفي ذاتيًا. وسوف نرى كيف استفاد غاندي من هذا عبر تأسيس جماعات صغيرة تحاول العيش من جنى يديها، وحاول تعميم هذه التجربة على القرية الهندية فيما بعد. غاندي كان مؤمنًا باقتصاد القرية، وهذا مبدأ أساسي في، إن جازت التسمية، النظرية الاقتصادية الغاندية؛ إذ يجب الإنطلاق من فكرة الإكتفاء الذاتي في الوحدة الاجتماعية الأصغر، التي هي القرية، إلى الوحدات الأكبر.
مما لا شك فيه، ومهما حاول كل طرف أن يشد غاندي إليه، أن غاندي هو ابن الهندوسية، والتراث الروحي الهندوسي هو الذي زوَّده بالأدوات الفكرية والنفسية والعملية للعمل الداخلي. إن نهجه الحياتي يندرج فيما يُعرَف في الهند بالـكرما يوغا karma-yoga – يوغا العمل؛ وقوامه رياضة يومية دائمة تستهدف سيادة المرء على حواسه وأهوائه وشهواته، بواسطة الاكتفاء بالقليل طعامًا ولباسًا، والصيام البدني والنفسي، والطهارة – طهارة القلب والبدن – والصلاة، وجمع الحواس، والصمت الداخلي (نذر غاندي يوم الاثنين من كلِّ أسبوع يوم صمت)، وعدم التعلق بنتائج العمل، نجاحًا أو فشلاً، والزهد في ثماره، بل تقديم هذا العمل قربانًا للإله. فمن شأن هذه الرياضة أن تشحذ الملكات الفكرية والنفسية والبدنية للمرء، وتُحرِّرها من ربقة الأنانية، بما يجعلها أداة حاضرة طيِّعة لاستقبال التحول الروحي الداخلي وإنفاذ إلزاماته القاهرة في الحياة العملية. ومع ذلك فقد ترك غاندي هامشًا للضعف البشري: "المحبة والاستئثار بالملكية لا يجتمعان [...]. الجسم هو آخر ما نملك. لذا فإن المرء لا يقدر أن يحب محبة كاملة وأن يزهد في كلِّ ملكية ما لم يكن مستعدًا لقبول الموت والتضحية بجسمه في سبيل الإنسانية. لكن هذا يصحُّ نظريًا وحسب. أما في الواقع فلن نقدر أن نحب محبة كاملة لأن الجسم، باعتباره ملكيَّتنا، سيبقى معنا. سيظل الإنسان ناقصًا، وسيكون قدرُه دومًا أن يتشوَّق إلى الكمال."
تبنى غاندي، في البداية، مبدأ اللاتعاون، واستعمل في الفترة الأولى مصطلح اللامقاومة الذي استعمله تولستوي، والمقصود به عدم مقاومة الشر بالشر، وهذا، بنظر تولستوي، التعبير الأبسط عن عمق المسيحية. وجد غاندي أن كلمتي اللاتعاون واللامقاومة لا تؤديان المعنى المطلوب فأطلق على برنامج المقاومة اللاعنفية الجماهيرية الذي وضعه اسم ساتياغراها satyāgraha (ساتيا = "حقيقة"، وأغراها = "قبض")؛ وهذا المصطلح بالسنسكريتية يعني تقريبًا "الاستمساك بالحقيقة" (ترجمه غاندي بـ"القوة النابعة من الروح"، بينما حاول لويس ماسينيون نقل معناه بـ"المطالبة المواطِنية بالحقيقي" revendication civique du vrai). فبما أن الكذب والظلم الناجمين عن الأنانية البشرية يحجبان، بعنفهما، الحقيقة التي فُطِر عليها الإنسان فإن الـساتياغراها لن تقاوم العنف بعنف مماثل. هنا يأتي دور مفهوم أهمسا ahimsā (أ = أداة نفي، وهمسا = أذى) الهندوسي القديم – النابع من المفهوم الأول – الذي تبنَّاه غاندي والذي، برأيه، هو أول قوانين الحياة. أهمسا هو، بالدقة، "كفُّ الأذى" عن كل المخلوقات، وهو، تعميمًا، الرحمة أو المحبة. وحده اللاعنف، بنظر غاندي، قادر على استعادة الحقيقة. وقد كتب بهذا الصدد: "ساتياغراها ليس العصيان المدني حصرًا، بل سعي هادئ لا يقاوَم إلى الحقيقة." لقد كانت الحقيقة طوال حياة غاندي كلها هاجسه الأوحد، كما يعكس عنوان سيرته الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة. الحقيقة بنظر غاندي لم تكن مطلقًا مجردًا مبهمًا، بل مبدأ ينبغي اكتشافه اختباريًا في كل حالة على حدة. الحقيقة، في خبرته، هي الغاية واللاعنف هو وسيلتها. من هنا فقد اهتم بصفة خاصة بالوسائل المستعمَلة لبلوغ الغاية، مؤكدًا أن الوسائل تصنع الغاية بالضرورة. لذا يتخذ اللاعنف عدة أساليب لتحقيق أغراضه، منها الصوم، والمقاطعة، والاعتصام، والعصيان المدني، والترحيب بالسجن إذ حصل، ورباطة الجأش أمام الموت. كتب أيضًا: "اللاتعاون ليس حركة تبجح ولا هو تظاهُر. إنه امتحان لإخلاصنا. على أتباعه أن يعقدوا العزم على التضحية بأنفسهم. إنه نداء موجَّه إلى صدقنا وإلى مقدرتنا على العمل من أجل الأمة وحركة تهدف إلى ترجمة الأفكار إلى أفعال [...]. من يمارس اللاتعاون يسعى إلى لفت الانتباه وتقديم القدوة الحسنة، ليس بالعنف لكنْ بالتواضع الراغب عن الظهور. فهو يترك عمله المكين ينطق عن إيمانه، وقوته تكمن في ثقته بعدالة قضيته [...]. الكلام، خاصة إذا نطق عن غرور، يشي بنقص في الثقة [...]. لذا فإن التواضع هو مفتاح النجاح السريع." هذا مردُّ دعوة غاندي أتباعَه إلى الانتصار بالمحبة، لأن من شأنها وحدها أن تعطي الساتياغراهي المنعة الروحية، والتواضع، والإقدام، والاستعداد للتضحية من أجل رفع الظلم (= الظلمة) عن الذات وعن الخصم. صحيح أن غاندي يشترط لنجاح هذا النهج تمتُّع الخصم ببقية من ضمير وحرية تمكِّنه في النهاية من فتح حوار موضوعي مع خصمه، لكنه لم يفقد لحظه إيمانه بأنه لا يوجد إنسان واحد على الأرض يعدم هذه الصفات تمامًا.
من هذه المنطلقات قرر غاندي إنشاء تعاونية مشاعية مؤلفة من المقاوِمين المدنيين، أطلق عليها اسم "مزرعة تولستوي"، تيمُّنًا بمعلِّمه الكبير، مستبدلاً بثيابه الأوروبية زيًا هنديًا. وهناك عكف على القيام بأشغال يدوية من أجل العمال غير المأجورين من الطوائف الخارجية وشجَّع كاستورباي على القيام بذلك أيضًا. ويعود إلى تلك الفترة تمرُّسه على الصيام. وفي عام 1906 نذر وزوجَه العفة بعد أن رُزِقا أربعة أبناء، وأشاد بـبراهماتشاريا (= نذر العفة) وسيلة لضبط النسل وللطهارة الروحية، وبدأ أيضًا يحيا حياة فقر إرادي. وعلى الصعيد السياسي، أسَّس صحيفة الرأي الهندي التي صارت لسان حاله.
لن ندخل في تفاصيل النضال، ولكن يجب أن نلاحظ مرونة غاندي الهائلة. فبعكس ما درجنا عليه في مجتعاتنا من اعتبار الخصم عدوًا نسقط عليه كل الصفات الشائنة كان غاندي، من خلال تحليله للجملة الاجتماعية والإنسانية والسياسية والاقتصادية التي يوجد فيها قاس وصارم في نقده لنفسه وجماعته بمقدار ما هو قاس وصارم في نقده الخصم.
كان وجود غاندي في جنوب افريقيا فعالاً جدًا فقد استطاع إلغاء كل القوانين الجائرة التي كانت مفروضة على الملونين. ولكن أهم انجاز حققه هو إعادة الثقة إلى أبناء الجالية الهندية المهاجرة، وتنمية إحساسهم بكرامتهم الإنسانية، وتخليصهم من عقدتي الخوف والنقص.
وعلى التوازي، اهتم غاندي بالتهذيب المعنوي والخلقي – بادئًا بنفسه. لقد كان يعتبر بأن أحد أسباب العداء والنظرة الدونية اللذين يكنُّهما البيض للهنود هو نوع من الصفاقة وعدم الاكتراث بالهندام، وحتى القذارة البدنية، لدى قسم من الجالية الهندية. من هنا اهتمامه الشديد بالطهارة، خلقية كانت أم بدنية (لقد قرَّب طريقة البيض التمييزية في معاملة الهنود من طريقة الهندوس الطائفيين في معاملة "المنبوذين").
على الرغم من مناوئته للحكومة، لم يستنكف عن مناصرتها وقت الأزمات والشدائد – إذ نظَّم مجموعات من المتطوعين الهنود خدموا كممرضين إبان الحرب ضد البووِر والحرب العالمية الثانية – لأنه كان يرى بأن الهنود لم تكن تحق لهم المطالبةُ بحقوق الرعايا البريطانيين ما لم يتحمُّلوا واجباتهم ومسؤولياتهم كاملة كمواطنين. وقد كتب بخصوص الواجب: "المصدر الحقيقي للحقوق كلِّها هو الواجب. إذا قام كل منا بواجبه فإن الحقوق سوف تتوطد من تلقاء ذاتها [...]. العمل هو الواجب، والحق هو ثمرته."
في كانون الثاني من عام 1915، بعد إنجازه مهمتَّه في جنوب أفريقيا، عاد غاندي إلى الهند بعد إقامة قصيرة في بريطانيا. وقد أطلق عليه رابندرانات طاغور لقب "مهاتماجي" الذي عُرِف به مذ ذاك. وإبان السنوات الأولى التي تلت هذه العودة انخرط غاندي في نشاطات متعددة. لقد كان وضع الهند مزريًا يعجُّ بالمظالم الاجتماعية: بؤس يكاد يكون معمَّمًا (ولاسيما في الريف)، الوضع الاجتماعي والتعليمي المتدنِّي للمرأة، وضع المنبوذين، والتعصُّب الديني الأعمى الذي يغلب على العلاقات بين الهندوس والمسلمين.
بدأ غاندي أولاً (1916-1917) بمسح ميداني شامل للريف الهندي، كان من نتائجه أنه ناضل لتحسين المصير البائس للفلاحين الذين كانوا يزرعون النيلة لحساب المُلاك الأوروبيين في منطقة تشامباران، وتصدى للدفاع عن اليد العاملة في صناعة النسيج في أحمد آباد. في كلتا الحالتين استعمل غاندي اللاعنف والعصيان المدني والصوم، ولاسيما في إضراب أحمد آباد الذي استهدف الضغط على أرباب العمل، بمخاطبة قلوبهم، وعلى العمال، الذين كانت عزيمتهم قد بدأت تلين؛ وفي كلتا الحالتين تُوِّج جهاده بالنجاح. في أثناء ذلك كان الناسك الوديع، مرتديًا الـدهوتي وطاعمًا كأفقر الفقراء، معلنًا أن العمل اليدوي لا غنى عنه لمن يريد أن يسير على صراط الحق، يكسب ملايين القلوب في فترة جيشان عظيم، حاثًا إياهم على المقاومة وعلى التجدد الروحي. قال: "إن استغلال الفقراء لا يُزال بالقضاء على بضعة أثرياء، بل بتعليم الفقراء الذين يجب تلقينهم عدم التعاون مع سادتهم. فمن شأن هذا أن يوقظ السادة أيضًا. لا بل إني أتنبأ بأن هذا الإجراء سوف يؤدي إلى جعلهم جميعًا شركاء متساوين. رأس المال ليس شرًا بحدِّ ذاته، إنما استعماله الشرير هو الذي يجعل منه شرًا."
في حادثة أمريتسر، التي قُتل فيها عدد كبير من المصلين في المعبد الذهبي، حُسمت أمور كثيرة بالنسبة لغاندي حيث أكد حينها أن لابد من المطالبة بالحكم الذاتي - لم يكن قد طرح بعد فكرة الاستقلال-. بعد حادثة أمريتسر قال غاندي: "يود البريطانيون أن يجري القتال بطلقات الرشاشات [...]. لذا فإن الوسيلة الوحيدة لضمان انتصارنا هي أن نفعل ما من شأنه أن ينقل المعركة إلى مجال نملك نحن السلاح فيه فيما هم يعدمونه."
وهكذا ردَّ غاندي على تعنُّت بريطانيا باللاتعاون مع المحاكم والمحلات والمدارس البريطانية؛ الأمر الذي اضطر الحكومة إلى إعلان إصلاحات مونتاغو–شلمسفورد. وفي عام 1922 حوكِم غاندي وحُكِم عليه بالسجن مدة 6 سنوات، ثم أطلِق سراحه لإجراء عملية عاجلة لاستئصال الزائدة الدودية (تلك كانت آخر مرة يُحاكَم فيها).
أوضح غاندي، بما لا يدع مجالاً للبس، أن اللاعنف ليس عجزًا أو ضعفًا، ذلك لأن "الامتناع عن القصاص ليس عفوًا ما لم تكن القدرة على القصاص موجودة أصلاً" (هند سواراج)؛ وهو كذلك لا يعني الاستكانة للظلم عن خوف أو عن جبن: "أهمسا والخوف لا يجتمعان." (الهند الفتاة) بل ذهب حتى تفضيل العنف على الجبن والخنوع: "إنني قد أخاطر باستعمال العنف ألف مرة بدلاً من خصاء عرق بشري بأكمله." (هند سواراج) وكتب أيضًا: "أفضل أن تلجأ الهند إلى السلاح دفاعًا عن شرفها على أن تصير أو تبقى، عن جبن، شاهدة عاجزة على هوانها. لكنني أعتقد أن اللاعنف أسمى من العنف بما لا يقاس، وأن العفو أكثر شهامة من القصاص [...]. لكن العفو لا يمكن أن يُمنَح إلا عند وجود المقدرة على القصاص؛ فهو يعدم المعنى إذا أتى من عاجز [...]. لكني لا أحسب أن الهند عاجزة. ولا أعتبر نفسي مخلوقًا عاجزًا. إنما أريد أن أستعمل أسلحة الهند وقوتي أنا في سبيل غاية أسمى." بذلك خرج غاندي، منذ البداية، من الدروب المطروقة.
إن الردَّ على العنف بالعنف – عنف البشر وعنف المواقف إجمالاً – لا يمكن إلا أن يضاعِف الشر – وإن نجم عنه في الظاهر مكسبٌ آني. فبما أن الغاية هي العثور على حقيقة يحجبها عنفُ البشر، أو إظهار حقيقة ما تزال غير منطوق بها لكنها معرضة للتلاشي، فإن الدرب الأوحد الممكن هو الدرب الذي يُحبِط مساعي العنف. ينطوي اللاعنف، إذن، على تقدير للمخاطر من أينما أتت، على قوة معنوية قادرة، من حيث الإمكان، على النضال بالعنف إذا انعدمت الخيارات الأخرى تمامًا؛ لكنه ينطوي أيضًا على قوة إضافية، على تجاوز للعنف، وعلى تركيز بطولي على أن الرهان الحقيقي في أي صراع ليس الفوز بالنصر، بل الإخلاص للحقيقة.
من هنا ينطلق ديالكتيك اللاعنف الذي لا يمت إلى ديالكتيك كلٍّ من هيغل وماركس بصلة؛ إذ إنه ديالكتيك حرية، وليس ديالكتيك الضرورة التاريخية. إن وظيفة أهمسا العليا هي تنبيه الخصم إلى مسؤوليته. بالمقاطعة، والصوم، وقبول السجن، وحتى التضحية بالنفس، لا يبقى للخصم من مخرج إلا في أن يعي أنه متواطئ على وضع غير مقبول إنسانيًا؛ وبما أن الساتياغراهي لا يريد الخسائر، بل يكابدها، فإن تواطؤ الخصم على الجور يتضخم وينفضح. إن الساتياغراهي، بامتناعه عن أيِّ عدوان، لا يتضامن مع العنف، بل يستدعي بقية الحرية التي ما تزال سليمة في نفس خصمه؛ إنه بذلك ييسِّر على الأقل لهذه الحرية، إذا ما كانت ناجية، ألا تتذرع بشيء يحول بينها والمواجهة الداخلية – لا بل "يرغمها" على هذه المواجهة، إذا جاز التعبير – بحيث يمكنها عندئذٍ أن تبادر إلى الحوار. وباختصار، يفتح اللاعنف للآخر طريق الرجوع عن خطئه. ويمكن لمناخ من الموضوعية عندئذٍ أن يقرِّب بين وجهات النظر بغية التفاهم أو التكامل، باسترداد الحقيقة الضائعة أو باكتشاف حقيقة كامنة. هذا التجاوز للعنف يمضي غاندي به حتى نسيان التوتر وجروح المعركة: "العفو حلية المجاهد." (السيرة الذاتية) هذا الفيض من الشهامة هو الذي جعل غاندي يستحق فعلاً لقب "مهاتما" الذي أسبغه عليه طاغور.
من القضايا الأخرى التي اعتنقها غاندي تحسين حال "المنبوذين" – أعضاء الطوائف الدنيا – الذين أطلق عليهم اسم هارِجان Hārijān (= "أبناء الله") واعتبر وضعهم المزري سُبَّة في جبين الهند، لا تليق بأمة تسعى لتحقيق الحرية والاستقلال والخلاص من الظلم؛ فالـسواراج، برأيه كان متعذرًا ما دام هذا التمييز موجودًا. - المنبوذ هو من يولد خارج الطوائف الأربع التي ذكرناها سابقًا. وقد كان الهندوس المتشددون يعدون المنبوذين دنسين لا يجوز التعامل معهم إلا عبر تكليفهم بأعمال يأنفون منها …
كاجو كاجو: هل طبقة الهندوس طبقة مغلقة؟ أي هل يمكن أن يُعاقب بعض الناس بوضعهم في هذه الطبقة، أو بسبب الفقر مثلاً؟
ديمتري: كلا، يولد المرء في طبقة معينة ويبقى فيها… وقد تصاعد جهاده عندما قررت بريطانيا بعد المائدة المستديرة الثانية تسجيل الـ 50 مليونًا من المنبوذين في قائمة انتخابية على حدة. ففي 20 أيلول 1932، بعد فشل مراسلته مع الحكومة وتبنيها القانون، بينما كان في سجنه، شرع في صيام "حتى الموت" احتجاجًا على قرار الدولة هذا الذي رأى فيه تكريسًا نهائيًا لمنزلة المنبوذين الاجتماعية المتدنية (وبهذا واجه زعيمهم د. بهيمراو أمبدكر الذي كان يؤيِّد انتخابات منفصلة كضمانة سياسية لتحسين حالهم). وفي اليوم السابع، بينما كانت الهند بأسرها، مشدودة صامتة، تتابع تدهور حالة غاندي الصحية، وبعد أن تمكَّن القادة والزعماء الدينيون بصعوبة من ثني أمبدكر عن موقفه، قَبِل البريطانيون بالتنازل الذي وضع حدًا لخطر التمييز السياسي بين المنبوذين وهنود الطوائف وتم التوصل إلى ميثاق بونا الذي قضى بزيادة عدد المقاعد المخصصة للنواب المنبوذين وإلغاء نظام التمييز الانتخابي. وكنتيجة لصوم غاندي فُتِحَت بعض المعابد لطوائف خارجية للمرة الأولى في تاريخ الهند. وقد تواصل جهاد غاندي هذا: رمزيًا عبر مقالاته في أسبوعيَّته هارجان، وفعليًا بضغطه، اعتبارًا من عام 1937، على الوزراء المؤتمريين لكي يلغوا قانونيًا التشريعات التي تحدُّ من تحسين وضع المنبوذين.
ما تلا معرف، وما من شك أن استقلال الهند كان مأساة في نظر غاندي بسبب التقسيم.
السبب المباشر لموت غاندي هو اغتياله على يد هندوسي متشدد، فقد وصل غاندي في "تنازله" للمسلمين حتى لا تنقسم الهند إلى حدود غير "مقبولة"، ذلك أنه طلب من نهرو التنازل عن رئاسة الوزراء لمحمد علي جناح. تأسيس باكستان قصة طويلة ويمكن أن نلفت النظر إلى أنه، إلى جانب تأسيس إسرائيل في العصر الحديث، هي الدولة الوحيدة التي تقوم في تأسيسها على أساس ديني بحت.
أخيرًا، بين المعترضين على حظوظ الانتفاضة اللاعنفية التي وضع غاندي أسسَها من النجاح هناك مَن يختزلها إلى الظروف الاستثنائية التي سمحت بتحقيقها، حجَّتهم في ذلك أن استعمال الديالكتيك الغاندي كان ممكنًا نظرًا لأن الهند وإنكلترا كانتا تشكلان، سياسيًا واقتصاديًا، منظومة مغلقة؛ لكنْ مع العولمة التي تفجر المنظومات المغلقة لم يعد بإمكان هذا الديالكتيك أن يفلح. على هؤلاء نجيب بأن العولمة قد تزيد من حظوظ نجاح اللاعنف، من حيث إن تضامن الشعوب، فيما يتعدى الحدود القومية والدينية، من شأنه أن يضغط على استبداد الحكومات وتعسفها. كذلك فإن العولمة – على علاتها – تنطوي برأينا على أمل حقيقي بانتفاضات لاعنفية إيجابية ضد الحروب، والاحتلال، والتطهير العرقي، وعدوان الدول الكبرى، والهوة السحيقة الفاصلة بين دول الشمال المتقدمة ودول الجنوب التي هي بأمس الحاجة إلى التنمية.
في كتاب على خطى غاندي[3] توجد أمثلة عديدة على حركات لاعنفية استلهمت، بحسب ظروفها وإمكاناتها، الفكرة الغاندية.
يبقى أنه في هذا العالم الذي يتقنَّع فيه العنف كل يوم بوجوه جديدة – تدمير الطبيعة وصيد الأنواع حتى الانقراض، الاستعمال الأرعن للحيوان في التجارب المخبرية، وسائل الإعلام وأفلام العنف، الرياضات "الجماهيرية"، الإدمان المتزايد على المخدرات، تفشي الدعارة المنظَّمة المتعدِّية للجنسيات، ألعاب الفيديو، الإنترنت، الخطر النووي، لعبة الديمقراطية، الإرهاب (الأصولي وغير الأصولي) ومكافحته، بطش القوي ماديًا بالضعيف ماديًا – من واجب الآخذين باللاعنف نهج حياة، بدون أن يتزحزحوا عن موقفهم الداخلي الأساسي، أن يبتكروا أساليب عمل جديدة، وأن تتفتق عبقرية الحقيقة الكامنة في مذهبهم عن تجلِّيات بكر.
ولا ريب أنه، في حال اقتنعت أقلية رائدة بضرورة اللاعنف المصيرية من أجل نجاة الجنس البشري، لن تستطيع هذه الأقلية أن تشق له دربًا في التاريخ، على خطى سقراط والناصري والحلاج وغاندي، إلا بشقِّ النفس وببذل تضحيات جِسام، لا لشيء إلا لأنه لا يفصل جهادَ النفس عن جهاد البشر. فليس عبثًا أنْ قيل في غاندي إنه كان "قديساً بين رجال السياسة، ورجل سياسة بين القديسين".
شكرًا لحسن إصغائكم.
*** *** ***
حوار وتعليقات محاضرة غاندي بين السياسة والقداسة
 بريهان قمق: أود بداية أن أقول شكرًا على هذا اللقاء الثاني الذي يجمعني بكم. لدي نقطتان أساسيتان توقفتُ عندهما كثيرًا. الأولى: هل من الممكن للعنفي أن يتحول إلى لاعنفي؟ أقصد نحن ممتلئون بالعنف. منذ عام وحتى الآن وأنا أعيش جدلاً ذاتيًا لأني اكتشفت كم العنف الداخلي في ذاتي. السؤال الذي يطرح نفسه هو: من خلال متابعة غاندي أو تولستوي نجد أن هناك مجموعة عوامل أدت إلى بروز اللاعنفي، هل يمكن للعنفي أن يصير لاعنفيًا ضمن معطيات أخرى غير المعطيات التي وجد فيها؟ النقطة الثانية…
ديمتري أڤييرينوس: هل تقصدين بالعنفي الشخص المؤمن بالعنف؟

بريهان قمق: نعم الانسان المؤمن بالعنف، الدموي. النقطة الثانية: قلتَ "ليس النصر بل الإخلاص للحق"، هذه فلسفة عالية وروحانية أتوقف عندها قليلاً.
ديمتري أڤييرينوس: سأجيب على سؤالك الثاني أولاً ثم أعود إلى السؤال الأول. "ليس النصر بل الإخلاص للحقيقة". هذا لا يعني أن اللاعنفي، بالمعنى الغاندي، لا يهمه النصر في قضيته. في الورشة السابقة أكد جان-ماري مولَّر، سواء في قراءته الفلسفية أو الاستراتيجية، على أهمية أن يختار اللاعنفي هدفًا متاحًا محددًا وواضحًا، ويبذل كل طاقاته من أجل تحقيقه. في النهاية، هناك ظروف لا يمكن تجنبها. الواقع متغيرٌ ولذلك لابد من الانطلاق من دراسة متأنية للجملة التي يحدث فيها العمل اللاعنفي. في أحيانٍ كثيرة نجد أن إخلاص غاندي للحقيقة جعله يلغي أو يؤجل أو يحبط بعض الأهداف اللاعنفية المحددة مسبقًا. كانت لدى غاندي قناعة كبيرة بأنه لا يمكن الجمع بين العنف واللاعنف في حركة واحدة، لأن الجزء العنيف من الحركة سيبطل مشروعية وفعالية الجزء اللاعنفي منها، ناهيك عن الجانب الأخلاقي، إذ لا يمكن للإنسان اللاعنفي أن يبرر العنف. في كثير من الأحيان، نتيجة الإخلاص للمبدأ، ونتيجة اعتقاد غاندي بأن الهنود، وهم يقومون بالحركة المعينة، هم غير مهيئين بعد ليكونوا لاعنفيين؛ كان يغير اتجاه الحركة اللاعنفية. طبعًا لم تكن لدى غاندي أية أوهام بهذا الخصوص، فقد شكّل ما يشبه الرهبنة للساتياغراهيين الملتزمين بنذور كاملة في الحياة أهمها الإخلاص للحقيقة، وعليهم كان يتكئ بالدرجة الأولى، إذ لم تكن لديه أوهام بخصوص العامة. من الممكن كثيرًا أن تفلت الأمور ويحدث شطط. وعندما كان يحدث شيء من هذا كان غاندي يوقف الحملة اللاعنفية ويكفر عن الخطأ بصيامه الشخصي. والصيام هنا ليس لإشعار الآخر بالذنب بل فعل تكفيري محض. أحيانًا نتيجة تغير الظروف الواقعية ضمن الجملة التي تم التخطيط الأولي على أساسها كان يتم تعديل الأهداف المرحلية للحركة اللاعنفية…
بريهان قمق: تقصد أنه من المهم التركيز على الوسائل…
ديمتري أڤييرينوس: نعم، في كل لحظة. غاندي يقول: إذا انحطت الوسيلة انحطت الغاية. بالنسبة للسؤال الأول سأجيب أيضًا من خلال غاندي، وهو يقول: إن حظ العنيف من أن يصبح لاعنفيًا أكبر بكثير من حظ الجبان، لأن من أهم خصال اللاعنفي القوة. القوة هنا لا تعني العنف بل القوة الروحية، وهي ما يسميه الساتياغراهي "القوة النابعة من القوة"، الطاقة الداخلية، الحضور الداخلي. الأمر دقيق جدًا. عندما فرض البريطانيون على الهنود ضريبة على الملح، اختار غاندي، من خلال مسيرة الملح الشهيرة، هدفًا ممكنًا أصاب من خلاله الإدارة البريطانية. وفعلاً بعد أن أخذ هذا القرار بدأ الساتياغراهيون، الذين دربهم بنفسه وكان المشرف عليهم شخصيًا، والذين لديهم استعداد كامل للتضحية، شجاعة لمواجهة العنف بدون رد مماثل؛ باحتلال مخازن الملح. الإنكليز لم يرسلوا إنكليزًا للتصدي لهم بل هنودًا. وما حدث حينها أنه كان يتقدم أربع ساتياغراهيين ويتعرضون للضرب - حتى أن الصحفي الأميريكي الذي روى الحادثة قال كنت أسمع صوت العظام وهي تتكسر -، وبعد أن يسقطوا تأتي الممرضات ليأخذن الجرحى لإسعافهم ثم يتقدم صف آخر، وهكذا لعدة مرات… في هكذا حالة، من الغير المعقول أن يستمر الإنسان في الضرب إلا إذا كان فيه خلل نفسي مزمن، أقله ستأتيه لحظة ويتعب. السؤال المطروح الآن: هل من الممكن القيام بنفس الشيء حاليًا، أي مقابل الأسلحة التكنولوجية المتطورة؟ أعتقد أنه ممكن. في لقاءنا الأول أذكر أني ذكرت مثالاً، كان قد ذكره الأستاذ خالص جلبي، عن افتراضٍ مفاده أنه لما حدث الاجتياح الاسرائيلي لقرية جنين اجتمع كل أهالي جنين وشكلوا طوقًا بشريًا، طبعًا مع حضور إعلامي مكثف - من الأشياء المبكرة التي اكتشفها غاندي فعالية وسائل الإعلام رغم بساطتها في ذلك الوقت –، ألن تكون النتيجة مختلفة؟ حتمًا ستحدث إصابات، ولكن هل سيكون الأمر مروعًا كما قد حدث. في النهاية محاولة استرداد الحق تحتاج إلى تضحية.
أديب خوري: شكرًا ديمتري. أولاً: أريد تقديم توضيح صغير عن مجموعات التمريض خلال الحرب العالمية الأولى. غاندي قال إن الخدمة في التمريض لا تعني الخدمة في نظام جيش عنفي. ثانيًا: وسائل الإعلام التي تطورت بحيث أصبحت قادرة على نقل الحدث لحظيًا تطورت أيضًا في اتجاه ثان معاكس ذلك أنها أصبحت قادرة على قلب الحدث كذلك. ولذلك أعيد ما قد قلته أنت: المطلوب إبداع طرق جديدة.
ديمتري أڤييرينوس: فعلاً، المطلوب إبداع طرق جديدة، واستقطاب الإعلاميين القادرين على تفهم الهدف، والمتعاطفين معه.

marwa kreidieh
مروة كريدية: موضوعُ تجسد الألوهة في الإنسان، في الكائن البشري، وعملية أن ينتقل الإنسان في مسيرته الروحية إلى مرحلة يصبح فيها غير قادر على الإساءة إلى أي شيء انبثق عن حضرة التكوين، حيث يصبح التعدي على أي كائن أمرًا متعذرًا؛ حيث يصل الإنسان إلى مرحلة قادر فيها على الصفح والعفو، حتى لا يتأذى هو نفسه. ما نعاني منه هو أننا حملنا كمًا لا يستهان به من الإرث العنفي-الروحي…
ديمتري أڤييرينوس: العنفي – الروحي؟!
مروة كريدية: يمكن أن نضع كلمة "ديني" بين قوسين. أقصد أن تراثنا وتاريخنا المشحونان بالعنف يدفعاننا إلى الدخول في دائرة مغلقة من الفعل ورد الفعل، حتى أن من يريد كسر هذه الدائرة يحتاج إلى طاقة مضاعفة لكي يتمكن من خلق مناخ يساعد على طرح اللاعنف. أريد أن استلهم من غاندي ما هو المناخ الذي أحدثه ضمن دائرة البؤس، أي ضمن دائرة العنف السياسي، والعنف الاقتصادي، وعنف العولمة، وعنف الهيمنة، وعنف تاريخنا، والعنف الديني. لكي تطرح رؤية مستنيرة يجب أن تكون لديك طاقة هائلة لامتصاص الطاقات السلبية من الآخرين وتحويلها إلى طاقة إيجابية. نحن واقعون في هذه النقطة بالذات، وعندما نريد أن نطرح فكرة اللاعنف للناس الذين ليست لديهم تجارب روحية تبدو الفكرة، بكل بساطة، استسلامية.
ديمتري أڤييرينوس: لنفترض أن مجموعة لاعنفية تريد أن تتشكل في سورية، نحن لا نستطيع إعادة نفس الظروف. ولكن الأكيد أن هناك شيء مشترك بين كل اللاعنفيين الكبار - اللاعنفيون الكبار بمعنى الذين اختاروا اللاعنف كخيار وجودي وليس فقط كخيار براغماتي آني ممكن التخلي عنه عندما تتغير الظروف-. ما يجمع بينهم هو حس عميق بالحقيقة الداخلية، سواء سميناه تجربة روحية أو تنوير عميق. اللاعنف، كخيار وجودي، هو نتيجة للحس الروحي العميق أو الحس الداخلي العميق وليس مسببًا له. هناك عمل داخلي مستمر على النفس وانتباه دائم.
مفهوم القائد مهم جدًا ضمن أي حركة لاعنفية، بمعنى ضرورة وجود القائد الملهم. وكلما كان القائد متعددًا كان قادرًا على إشراك مجموعة أوسع من الأفراد في تنظيم، أو في تدبير، العمل اللاعنفي. بشكل عام، في معظم التجارب التي حدثت عندما مات أو ذهب القائد انهارت الحركة. غاندي قال عبارة مهمة جدًا: كونوا التغير الذي تريدون أن تحدثوه. بمعنى أنه إذا إذا كان الخيار الديمقراطي والتعددي والمواطني هو جزء من الحركة اللاعنفية، وأساس رئيسي فيها، فإنه تجب على المشاركين في الحركة البدء بأنفسهم. يجب أن تتبنى الحركة نموذج القيم التي تريد إحداثها في المجتمع. العمل الفردي غير كاف لإحداث تغيير مجتمعي، بل لابد من العمل الجماعي الذي يحول دون استفراد القائد بالرأي والخيار.
أسامة إدوارد موسى: لا أعرف إن كان سؤالي هو استكمال لسؤال مروة. تحتاج العملية التواصلية إلى ثلاثة ركائز: المرسل والرسالة والمتلقي. إذا أخذنا مثال غاندي: غاندي هو المرسل، واللاعنف هو الرسالة، والمتلقي هو الشعب الهندي. سؤالي هو: لماذا نجح غاندي؟ هل إن الشخصية الهندوسية، أو المجتمع الهندي، هو السبب، أي أنه أكثر تقبلاً للفكر اللاعنفي؟ وبالتالي: هل تصلح كل المجتمعات، بخلفياتها، بأيديولوجياتها، لأن تكون مناخًا حاضنًا لفكرة ومفهوم اللاعنف؟
ديمتري أڤييرينوس: السؤال الذي يُبنى على سؤالك هو: هل الطبيعة الإنسانية واحدة أم متعددة؟ الطبيعة الإنسانية واحدة، وكلما كانت رسالتنا قادرة على ملامسة هذه الطبيعة الواحدة في الآخر، على المستوى النفسي والفكري الروحي العميق، كانت فرصتها في النجاح أكبر. منذ عدة أيام كانت هناك محاضرة لصديقنا الدكتور بكري علاء الدين تكلم فيها عن جلال الدين الرومي في مؤلفات عبد الغني النابلسي. النابلسي، مع كونه فقيه وشيخ مجتهد وقاض في فترة معينة، قد دافع بشدة عن الطريقة المولوية وعن موسيقاها ورقصها مقابلَ الفقهاء الذين حرموا الموسيقى والرقص. واستناده في ذلك إقراره بأن هناك جوهر مشترك في الأديان، وهو المحبة التي يجب أن تتسع لكل مظاهر التعبير عن الدين في الإنسان، والتي وجدها في جلال الدين الرومي. بعد المحاضرة وأثناء طرح الأسئلة، سأله أحد الحضور: هل دين المحبة، الذي نادى به ابن عربي وجلال الدين الرومي وابن الفارض وغيرهم، هو نفسه الدين الذي تبلغه رسالة محمد عليه الصلاة والسلام؟ فأجاب الدكتور بكري: على ماذا يتأسس الدين في رأيك؟ على يمكن أن يتأسس على الكراهية؟ لا أعتقد أن الدين يمكن أن يتأسس إلا على المحبة.
ما معنى أن نؤسس الدين على المحبة. معناه أننا نؤسسه على هذه الطبيعة الإنسانية الواحدة المشتركة بيننا جميعًا. عندما حُرّض الشعب الهندي واستُثير نتج عنه عنف مروع. لا أعتقد أن الشعب الهندي مهيأ أكثر من غيره لاستقبال اللاعنف. غاندي كان قادرًا على مخاطبة الطبيعة الإنسانية الواحدة عند الهنود، واستطاع، أكثر بكثير من غيره، أن يعيد إلى الهندي الاعتزاز بإنسانيته وكرامته. كثير من الهنود حكمتهم عقدة نقص تجاه الإنكليز، كما هي الحال الآن في العالم العربي في علاقته مع الغرب. إذا وُجد الإنسان القادر على مخاطبة الطبيعة الإنسانية المشتركة، المؤمن بأن الإنسان الذي فيه هو ذاته الإنسان الذي في الآخر "الخصم"، وأنه إذا كان هذا الآخر قد ظلمه فيجب أن يسترد حقه، ويجب أن يزيل الظلمة من نفسه حتى يتمكن من استرداد هذا الحق؛ فإن اللاعنف بدهي الحضور. لذلك أظن أن اللاعنف قابل للنجاح هنا أيضًا، ربما ليس على صعيد النتائج الملموسة آنيًا، إذ قد يفشل مؤقتًا، ولكنه، وبكل الأحوال، يهيئ البشر ليكونوا بشرًا أفضل.
عبد الرؤوف غوثاني: هل هناك فرق بين اللاعنف الذي تعيشه بشكل يومي وتمارسه ومستعد أن تضحي من أجله، وبين اللاعنف الذي تختاره كأيديولوجية توصلك إلى الهدف بأقل الخسائر؟ أيضًا، من خلال دراستي لتاريخ غاندي وجدتُ أن غاندي كان محاميًا وكان يلبس الطقم المصنوع من الجوخ الإنكليزي في البداية، ولكن بعد حادثة القطار حدث الانعطاف؛ هل تعتقد أنه لو لم يحدث له حادث القطار لما كان أن يكون المناضل الذي نعرف؟
ديمتري أڤييرينوس: الحياة هي كلٌّ وليست حدثًا واحدًا بسيطًا. غاندي هو غاندي لأنه عاش كل لحظات حياته. ما من شك أن أحدًا آخر كان من الممكن أن يتغاضى عن الإهانة ويتجاوزها. لكل منا لحظات تحول في حياته. بالنسبة لسؤالك الأول: أعتقد أنه من المهم، عندما تتشكل حركة فاعلة، أن تكون فيها مجموعة على الأقل متمكنة من خيارها الوجودي وراسخة فيه، في الوقت ذاته الذي ستحاول فيه اقناع الآخرين، قدر المستطاع، بأن خيارها الوجودي هو الطريق الحقيقي. غاندي وضح هذا الشيء بقوله إنه اختار اللاعنف على المستوى السياسي كخيار سياسي وليس فقط كخيار وجودي، أي أنه وضعه موضع التنفيذ من أجل أهداف محددة. ولكن يجب ألا ينفصل الخياران عن بعضهما. طريق غاندي هو الجمع بين القداسة والسياسة، بين المثالية والعملية. في النهاية لا يمكن تصنيف اللاعنف على أنه أيديولوجية فقط وإلا تحول إلى شيء آخر.
خالد برازي: ما علاقة العنف على المستوى الفردي بالعنف على المستوى الجماعي؟ مثلاً، في الحرب العالمية الثانية كان هناك عنف آلي، وكانت تقوده السلطات؛ بينما العنف على المستوى الفردي أكثر سهولة من الناحية التحليلة بل والعلاجية. هل العنف جزء من الحياة كما اللاعنف؟ أين نصنفه؟ أين الحد بين اللاعنف الفردي والعنف الجماعي؟ وهل العنف جزء من الحياة وأحد خياراتها؟
ديمتري أڤييرينوس: في أول ورشة ناقشنا هذا السؤال. قلتُ من الممكن أن تظهر الطبيعة وكأنها عنيفة. مثالاً البركان هل هو عنف أم لا؟ عندما يفترس الذئب الحمل، هل هذا عنف أم لا؟ قد تبدو الطبيعة عنيفة إلا أن الفارق هو أن الحركة الكلية في الطبيعة تجعل كل شيء فيها يتغذى من كل شيء. الإنسان يحتوي على إمكانية أن تتفجر الطاقة افيه بشكل عنيف، لكن دور الإنسان الواعي هو احتواء هذا العنف وتحويله بشكل خلاق. إذا وعى الإنسان وجود العنف في داخله استطاع تحويل هذا الطاقة بشكل بناء، ليس إلغاءها. هذا على صعيد اللاعنف الفردي أما على صعيد اللاعنف الجماعي فالأمور أكثر تعقيدًا. في كتاب فلسفة اللاعنف يتساءل الكاتب: ماذا عن هتلر؟ حدثت في الحرب العالمية الثانية إبادات هائلة. في أول مدينة قصفها الألمان "نوتردام"، في يوم واحد، قُتل ثلاثون ألف شخص! في المقابل، ومع صلابة الإدارة النازية، حدثت أعمال لاعنيفة فعالة خلال الحرب العالمية الثانية في الدول التي سيطرت عليها النازية. يمكننا أن نقول لو كان الناس في ذلك الوقت أكثر تهيؤًا، فكريًا ونفسيًا، لقبول اللاعنف لكانت الأمور مختلفة. يقول غاندي: وقوع الظلم أو العنف على الشخص المعنف هو، في جانب كبير منه، ناتج عن تواطئه مع الظالم، بشكل واع أو لاواع، وعن قبوله، الواعي أو غير الواعي، للظلم المفروض عليه.
*** *** ***
اللاعنف والعولمة
أديب الخوري
(صباح الخير. خلال محاضرات أمس، وخاصة خلال محاضرة ديمتري، سجلت بعض الملاحظات التي أود البدء بها لأنها تمهد لموضوع اليوم. تحدث ديمتري أمس عن العمل اليدوي عند غاندي، والذي كان جزءًا أساسيًا من حياته ومن نضاله في نفس الوقت؛ وفكرة العمل اليدوي مقابل الشركات الاحتكارية الكبرى ستكون جزءًا من هذه المحاضرة. أيضًا تحدث ديمتري عن الفقر الاختياري الذي لا أعتقده ضروريًا جدًا للنضال اللاعنفي كما تشهد بذلك حياة غاندي. بعض الناس عزوا نجاح غاندي إلى أن الهند وإنكلترا كانتا منظومة مغلقة سياسيًا واقتصاديًا. بغض النظر عن صحة هذه النظرية أو لا، يمكننا القول إن العالم الآن منظومة شبه مغلقة، وهذا ما يدخلنا في علاقة اللاعنف بالعولمة. أيضًا تحدثنا أمس عن الطرق الجديدة في العمل اللاعنفي، وتحدثنا عن ضرورة إبداع طرقنا الجديدة. أمس خطرت ببالي كلمة "طرق استباقية" أو وقائية، إذ لا يجب انتظار وقوع المشكلة حتى نبحث عن حل. النقطة الهامة جدًا، والتي توقفت عندها طويلاً، هي نقطة العمل الفردي والعمل الجماعي. أعتقد أن الأفراد الذين يختارون خيارًا معينًا سيجتمعون لاحقًا لتشكيل جماعات أو منظمات تتطور لتصبح مؤسسة. الخطر الكبير هو الأيديولوجية. هناك سؤال أود طرحه رغم أنه لا إجابة لدي عليه: هل يمكن أن نبقى أفرادًا لدينا استقلاليتنا في نفس الوقت الذي ننتمي فيه إلى مجموعة ما؟
أيضًا استمتعت بمحاضرة لنا أمس وبطريقة الإلقاء التفاعلية، ولدي بعض الملاحظات: من يمارس العنف ضد المرأة، سواء كان رجلاً أو امرأة، يمارس، قبل ذلك، عنفًا ضد الأنوثة التي فيه أولاً، وثانيًا يمارس العنف ضد الأرض-المرأة، الأرض-الأم. وما العنف ضد المرأة، برأيي، إلا صور وتجليات للعنف الأكبر، العنف ضد الأم الكبرى: الأرض.
أعجبتني طريقة التمارين في محاضرة لنا أمس وأود أن أطلب منكم تمرينًا بسيطًا وهو دقيقة صمت نفكر فيها ماذا يمكن أن يقول غاندي لكل منا. (تم التأمل)
تدعونا روح غاندي إلى ممارسة ساتياغراها، النداء الملحاح للحقيقة في خدمة الأرض الآن. إذ أنه لو استمر تدهور موارد الحياة والحضارة على إيقاعه الحالي فإن حظوظ الجنس البشري من الانهيار في مستقبل قريب لا يستهان بها. رامتشاندرا غاندي
تدعونا روح غاندي ومعها أرواح الكثيرين من الشهداء العظام الذين ما يزالون يفتدون هذا الجنس البشري في سلسلة لا تنتهي. يحدث مرارًا أن تلقى هذه الدعوة صدى وحماسًا في نفوسنا، ولكن هذا الحماس قد يخبو في كثير من المرات لنعود مرة أخرى إلى التقاعس، إلى النوم في أحضان الأمان الوهمي، قل في أحضان الكسل.
* * *
كلّ الأشياء، بعيدةٌ كانت أو قريبة، مرتبطةٌ معًا،
بحال إنّك لا تستطيع قطف زهرة دون أن تكون قد أزعجت نجمًا.
فرنسيس تومسون. من ديوانسيّدة الرؤيا
 
تدور عجلة اليين-اليان، لا تني.
نحن من نسمّيها سوداء بيضاء، ونحن من نفضِّل لونًا على آخر.
نحن من نرى خيرًا وشرًّا، وندعو لهذا دون ذاك.
نحن من نقول "عنف"، "لاعنف"،… فإذا بالعنف لاعنفٌ هو، وإذا باللاّعنف أشدّ العنف.
والعجلة تدور…
أيّ عملٍ جميلٍ حين أقطف زهرةً ريّا أقدّمها لمن أحبّ، وأيّ جهلٍ ألاّ أدرك أنّني أزعج النجوم!
كلّ الأشياء، بعيدةٌ كانت أو قريبة، مرتبطةٌ معًا، بحال إنّك لا تستطيع قطف زهرة دون أن تكون قد أزعجت نجمًا.
لكنّ هذا البيت من الشّعر صار، فيما يُسمّى "نظريّة الشّواش" في الرّياضيات، حقيقةً علميّة، دون أن ننسى أنّ الحقائق العلميّة نسبيّةٌ أيضًا!
أجل، كلّ الأشياء في الكون مرتبطةٌ معًا، لا رباطًا آليًّا جامدًا بل على نحوٍ عضويّ حيّ، هذا ما يقوله العلم إذًا: كلّ الأشياء مرتبطةٌ، عضويًّا، معًا…، "فإذا تألّم عضوٌ تألّمت معه سائر الأعضاء" قال بولص الطّرسوسيّ!
هل قطف زهرةٍ عمل عنيف؟! وإلاّ، فما الفرق بين قضم تفّاحةٍ وذبح شاة، أو حتّى قتل إنسان؟!
هل يعني هذا أنّ العنف نسبيّ، وأنّ اللاعنف بالتّالي نسبيّ أيضًا؟!
أيرتبط العنف، ومن ثمّ اللاّعنف بدرجة الوعي؟ أم نستطيع أن نعاملَ مَن نشأ في بيئةٍ عنيفة، بل ربّما في بيئةٍ يُعتبر بعض العنف فيها فضيلةً - مبدأ الأخذ بالثّأر مثلاً - كما نعامل مَن نشأ في أشرمٍ غانديّ؟! - دون أن ندّعي أبدًا أنّ ابن الأشرم هو بالضّرورة أكثر وعيًا من ابن الأخذ بالثّأر -.
والأهمّ في الأسئلة: هل يمكن للمرء أن يعيش دون حدٍّ أدنى من العنف؟! وهل هذا الحدّ الأدنى واحدٌ بالنّسبة للجميع؟!
أخيرًا، ألا يُطرَح هذا السّؤال على مستوى العالم مثلما يُطرَح على مستوى الفرد: هل تستمرّ الحياة دون مقدارٍ ما من العنف؟!
لا أجيب عن هذه الأسئلة بنفسي، بل أترك لمعلّمِي اللاّعنف الكبار هذه المسؤوليّة:
الأهيمسا[3]و اللاعنف مبدأ شامل، يقول غاندي، إنّنا بشر عاجزون تحيط بنا نار "الهيمسا" إنّ مقولة "الحياة تقتات بالحياة" لمقولةٌ تنطوي على معنىً عميق. لا يستطيع الإنسان أن يحيا لحظة من غير أن يباشر، على نحوٍ واعٍ أو لاواعٍ، "الهيمسا" الخارجيّة. فمجرّد معيشته نفسه، تناوله الطعام والشراب وتنقّله من مكان لآخر، ينطوي بالضرورة على شيء من العنف مهما يكن ضئيلًا. وهكذا فإنّ الساعي وراء اللاعنف يظلّ أمينًا على معتقده حين تكون جميع أعماله نابعةً من الحنان،..
لقد كتب غاندي هذا الكلام شرحًا لموقفه حين دعا الهنود الموجودين في بريطانيا إلى المشاركة في المجهود الحربيّ أثناء الحرب العالميّة الأولى، وحين عارضه في ذلك الكثيرون من شركاء نضاله اللاعنفيّ.
ليس المهمّ، كما أفهم ممّا تقدّم، هو العمل نفسه، المهمّ أن ينبع من الحنان.
على نحوٍ مشابه يجيب تيك نات هَنه، أحد كبار القادة اللاعنفيّين، عن سؤالٍ يخصّ الموضوع:
يُغالى في التشديد على التمييز بين اللاّعنف والعنف، بين النّاس غير العنيفين وبين العنيفين، لكنّنا لا نستطيع في الحقيقة أن نجزم بهذه السهولة [...] اللاّعنف هو اتّجاهٌ وليس خطًّا فاصلاً ليس للاّعنف من حدود [...] حتّى البوذا لم يكن يستطيع، وهو يمشي أو يشرب أو يأكل، أن يكون غير عنيف في شكل كامل، لسبب من داعي الحياة نفسها.
ويعطي تيك نات هنه أمثلةً عن قادةٍ عسكريّين يمكن أن يكونوا لحدٍّ بعيد أشخاصًا لاعنفيّين!
ما العولمة، وما العالم في الأساس، وأين تنتهي حدوده إن كانت له حدود؟! وهل لا تنتمي النجوم الّتي يزعجها قطف الأزهار، إلى عالمنا حقًّا؟!
بل أعتقد أنّها تنتمي…
في الصحارى البعيدة، حيث تحافظ الطبيعة على نقائها، تظهر نجوم اللّيل لوحةً أروع من الخيال، أمّا حيث يكثر الناس، حيث تُقطَف الزّهور، حيث تُقطع الأشجار، حيث تُجتثّ الغابات، فإنّ النجوم، إلاّ القليل منها، تختفي في أعماق الظلام خجلى من عنف البشر!
لكنّ العالم بات واحدًا اليوم، بمدنه وصحاريه، وإذا كانت حدوده قبل ألف عام تتراوح بين حدود القبيلة وحدود المملكة في أحسن الأحوال، فإنّ علماء هذا الزّمان يحدّثوننا عن الكون المتمدّد وعن حياةٍ على كواكب أخرى، فهل ينتهي العالم بحدود الكرة الأرضيّة وغلافها الجويّ، في الوقت الّذي يزداد فيه اليقين بوجود حيواتٍ كثيرة في الكون؟! ألا يوحي لنا العلم الحديث أنّ مفهومنا للعالم قاصرٌ جدًّا وهو على كلّ الأحوال نظرٌ من الداخل، رؤية جزءٍ لكلّ، وليس بأيّ حال رؤيةً حقيقيّة؟!
قد تبدو هذه الأسئلة الأخيرة بالذّات، فانتازيا لا ضرورة لها، أقلّه في وقتنا هذا، لكنّ العلم، الّذي لا يحقّ لنا تجاهله ونحن نستفيد من كلّ إفرازات قرينته التكنولوجيا، يدّعي، على ألسنة بعض شيوخه، أنّ الإجابة على هذه الأسئلة يمكن أن تلعب دورًا أساسيًّا في تغيير صورتنا عن الحياة وعن أنفسنا وبالتالي في تغيّر السّلوك اليوميّ لكلّ واحدٍ منّا وفي نمط حياته، وفي سلوكنا الجمعيّ وفي مستقبل البشريّة!
رغم ذلك، ومع ما أحسبه من أهمّيّة لهذه الأسئلة، فلنترك هذا الجانب من الموضوع الآن ولنبقَ ضمن حدود كرتنا اللاّمتناهيّة في الصّغر أمام سعة هذا الكون، هذه الكرة الّتي بدأ شكلها يتغيّر لراءٍ من فوق، أي الّتي بدأنا نعكّر صفاء زرقتها!
يتضارب فهم كلمة "عولمة" لدى مستخدميها وسامعيها. سأحاول أن أميّز فيما يلي بين فهمَين مختلفين للكلمة لأدعو إلى الاستعاضة عنها بعدئذٍ، في هذا الحديث على الأقلّ، بمصطلحٍ جديد. لا بدّ لي من أجل ذلك من التمييز أوّلاً بين مفهومين مختلفين لأكثر من مصطلَحٍ آخر، وسأبدأ باقتباس نصٍّ للمفكّر والشّاعر العظيم رابندرانات طاغور:
قديمًا، كانوا يجعلون الملك يعتقد أنّه الكائن الأكثر حرّيّة في العالم [...] أمّا في الواقع فلقد بنوا له سجنًا من الأوهام.
تقع شعوب الغرب ضحيّة لنهجٍ مماثل اليوم، فهم يقنعونها لكي يداهنوها، أنّها حرّة وأنّ السلطة المطلقة بين يديها لكن هذه القدرة تُسرَق منها بواسطة عدد من الأنانيين.
يُترك الاعتقاد الشعبي ينعم بحريّة ظاهريّة، بينما تقيَّد حرّيّته الحقيقيّة بكلّ الوسائل. فأفكاره تُصاغ تبعًا لمستويات مصلحة منظّمة [...] هكذا يبدو لي بشكل أكثر فأكثر وضوحًا أنّ مثال الحرّيّة قد تبخّر في جوّ الغرب. فعقليّة سكّانه هي عقليّة جماعة من الملاكين - العبيد أو أيضًا عقليّة حشد من البشر المشوّهين وقد رُبِطوا برحى طاحونته التجارية والسياسيّة. [...] إنّ مسرحيّات البربريّة والظّلم المخيفة، الّتي أصبحت مألوفةً لنا، هي نتيجة لعلم نفس مُستغِلّ للرعب على نحوٍ منهجيّ. [...] إنّ رحلاتي في الغرب، الّتي استطعت في أثنائها التأكّد من اتّساع سلطة المال والدعاية المنظّمة - المتحرّكة في كلّ مكان خلف شاشة التعمية، خالقة جوًا من الشكّ والوجل والنفور، قد أقنعتني أنّ الحرّيّة الحقّة هي حرّيّة الروح والفكر…
يقول الشاعر العظيم في هذا المقتطف ما يلي: إنّ الشعوب في الغرب ليست حرّةً بل هي مغشوشة في معتقداتها مكرّسة لخدمة عجلة الاقتصاد الّتي تقودها السياسة، مُقادة بإعلامٍ كاذب خادع، يستفيد من علم نفسٍ مُستَغلّ، أو إذا أردنا التصحيح، يستغلّ علم النفس بطرق سيّئة.
ألا نرى هذا الواقع، الّذي تحدّث عنه طاغور منذ نحو قرن، يتفاقم في العمق وفي الاتّساع، مشدّدًا الخناق على أبناء "العالم الحرّ" من جهة وممتدًّا ليشمل شعوبًا أخرى كثيرة، في "حركة عولمة" من جهة أخرى؟!
يعود اختياري لهذا المقتطف إلى كونه يلخّص بكثافة حلوة، على ما أظنّ، عناصر العولمة الرئيسة، أو على الأدقّ أحد وجوهها، وسأحاول شرح ذلك انطلاقًا من بعض الكلمات المفاتيح الواردة هنا.
الاقتصاد
نعيش اليوم كما يعلم الجميع أزمةً عالميّةً ماليّةً واقتصاديّة، تكرّس وقعًا غير لطيف لكلمة "اقتصاد" في أذهان معظم النّاس. ذلك أنّها تفضح الطريقة الّتي يُسيَّر بها اقتصاد العالَم والّتي ترفع كلّ يوم عدد الفقراء والجياع فيه رغم مشاريع الأمم المتّحدة للحدّ من الفقر!
ولكن ما الّذي تعنيه كلمة اقتصاد في الأصل والمبدأ؟! ألا يُفتَرَض أن يكون الاقتصاد أداة تنظيم، أداة موازنةٍ بين الإنتاج والاستهلاك، أداة تحقيق عدالةٍ اجتماعيّة؟! وما الاقتصاد في واقعه اليوم؟! أليس وسيلةً للرّبح على حساب الآخرين؟! أليس طريقةً لاستغلال الغير؟! أليس تحالفات أقوياء على حساب الفقراء في مؤسّساتٍ تزداد يومًا بعد يوم "عالميّةً"؟! أوليس في الوقت نفسه أيضًا صراعات حيتانٍ وقودها الفقراء أنفسهم، أليس عنفًا على أعلى المستويات؟!
هل يمكننا إذًا أن نتحدّث عن مفهومٍ إيجابيّ وآخر سلبيّ للاقتصاد، كلاهما موجود وكلاهما مُمارَس لكنّ أحدهما هو الّذي يسود ظاهريًّا على الأقلّ؟!
السياسة
يتفنّن البعض في تعريفها فيعرّفونها على أنّها "فنّ الكذب"! أوليست تُمارَسُ في الغالبيّة العظمى من الحالات على هذا الأساس؟! لكن ألم تكن تجربة غاندي برهانًا كافيًا، وهو ليس الوحيد، على أنّ هذا التعريف غير صحيح؟!
هل العلاقات الدولية هي بالضرورة علاقات توازنات وشدّ حبال بانتظار فرصة سانحة؟! أم أنّها في المبدأ علاقات احترام مبادئ وتمسّك بثوابت؟! هل السياسة مجرّد مطيّةٍ لما سمّيناه الاقتصاد السّلبيّ، أم يمكن أن تكون أداةً بيد الاقتصاد الإيجابيّ، اقتصاد العدالة والكفاية والتغلّب على الفقر، مع الحفاظ على الموارد الطبيعيّة وضمان سلامة البيئة…؟!
ألا يمكن القول أيضًا بوجود وجهين متقابلين للسياسة، وإن كان أحدهما أكثر حضورًا من الآخر؟!
العقيدة (الإيديولوجيا)
يضعنا المعنى الاشتقاقيّ لهذه الكلمة، في اللغة العربيّة، أمام إشكاليّةٍ لا نستطيع تجاوزها إلاّ بالكثير من الحرّيّة ومن الرّفض! فالعقيدة من العقدة، وهي بالنّسبة للأغلبيّة "مُنزَلة" أو شبه منزلة. والحال فهي ترادف على الدوام، عند أتباع عقيدةٍ أو أخرى، الصحّة الأكيدة والحقيقة الأكيدة، ورفض عقيدة الغير، بل ورفض الغير نفسه!
لكن أليس صحيحًا في العمق أنّ هذه العقيدة تختلف، لا في نصّها بل في فهمها، بين أيّ شخصٍ وآخر، أوليس من الحقيقيّ أنّها فرديّةٌ جدًّا، أوليس من الأكيد أنّها رغم كلّ العقد، متغيّرةٌ ومتطوّرةٌ من عصرٍ لآخر؟!
(هنا نقطة مهمة جدًا تتمثل بسؤال: هل الإنسان كائن عقائدي؟ أميل إلى القول دون أن أجزم: نعم. وبما أني اعتقد أن الإنسان كائن عقائدي فإني أردف: لتكن عقيدة متطورة، متغيرة، مرنة، منفتحة.
كاجو كاجو: في هذه الحالة لن يكون اسمها عقيدة.
أديب الخوري: بالمعنى الاشتقاقي هذا صحيح، ولكني أود أن أقوم بنوع من التوفيق، فأنا، كإنسان، كائن عقائدي شئتُ أم أبيت. بما أننا نتحدث عن العولمة أقول إن العقائد الكبرى التي تقود العولمة: الرأسمالية أو ما يسمى بالليبرالية والديمقراطية، لديها، من حيث المبدأ، وجهها الإيجابي.
كاجو كاجو: هل الليبرالية عقيدة؟
أديب الخوري: ليس عقيدة مكتوبة في مصحف طبعًا. لنكمل المحاضرة.)
القوّة
يقول الشاعر "طاغور" على لسان أمّ:
حين ألجأ إلى معاقبته، فإنّه يضحي، إذ ذاك، أكبر جزءٍ من كياني. وحين أجعل دموعه تنهمر فإنّ قلبي يبكي معه. لي الحقّ وحدي أن أؤنّبه وأعاقبه، فلمن يحبّ الحق، وحده بأن يعاقب[8]
(السلوك الذي قد تمارسه الأم لحماية ولدها هو عنف، ولكنه قوة أيضًا. عندما أتصرف بعنف وأنا لست سعيدًا بذلك "قلبي يبكي معه" فهذا حق وواجب. القوة من حيث المبدأ، مثل كل شيء آخر، لها وجهها الإيجابي، ولكن الطريقة التي يتم فيها استخدام هذه القوة، في كل العالم، بدءًا من المنزل إلى المدرسة إلى الصراع بين الدول، ليست الطريقة التي يتحدث عنها طاغور. وبالتالي يمكن الحديث عن قوة إيجابية وقوة سلبية، وأنا شخصيًا ليس لدي مانع من القول إن هناك عنف إيجابي وعنف سلبي.
أكرم أنطاكي: عنف إيجابي وعنف سلبي!!؟
أديب الخوري: في حالات خاصة يمكن أن نقول نعم. إنه سؤال كبير.
أكرم أنطاكي: أريد إجابة صريحة: هل هناك قتل إيجابي؟
أديب الخوري: قتل إنسان؟
أكرم أنطاكي: قتل إنسان أو حيوان.
أديب الخوري: حيوان نعم، أما إنسان فإني لا أستطيع الإجابة على هذا السؤال، لأنه أولاً من حيث المبدأ لا أوافق على الإجابة بلا أو نعم قطعية. كل حالة لها خصوصيتها…
أكرم أنطاكي: تقصد أن هناك حالات يقدر فيها إنسان ما أن إنسانًا آخرًا يجب قتله فيقتله أو يبرر قتله.
أديب الخوري: قد يكون.)
ألا يُبرَّر للأمّ أن تستخدم القوّة، وأن تستخدم بعض العنف، شرط أن يكون واعيًا لنفسه ومحبًّا ومتألّمًا، من أجل حماية ولدها من نفسه؟! ألا يعني هذا أنّ غاية القوّة من حيث المبدأ هي الحفاظ على الأمان، على سلامة النّاس، لنقل الرّدع… ألم يقل غاندي نفسه بالحاجة لمثل هذا النّوع من العنف؟! لأنّ ذلك، كما عبّر تيك نات هَنْه "من طبيعة الحياة". لكن ألا يكمن الخطر في اتّخاذ هذه القوّة وسيلةً لقهر الآخر والتّسلّط عليه واستغلاله، أو في أحسن الأحوال إسقاط مخاوف غير مبرّرة وتنفيس غيظٍ مكظوم؟! أما واقع الحال أنّ القوّة العضليّة الّتي يفوق بها الفرد الكبير الطفل الصغير، غالبًا ما تنقلب قوّة قهر وتسلّط؟! أوليس صحيحًا أنّ ما ينطبق على الأفراد ينطبق على الجماعات أيضًا؟! ألا نرى أنّ القوى العسكريّة الهائلة الّتي تتستّر بعباءة الأمن القوميّ، مرّةً وبعباءة تقديم الديمقراطية وإصلاح النظم مرّةً أخرى، توضع في كلّ مكان خادمةً لأغراض الربح والجشع وفرض الرأي والإقناع حين لا ينفع فنّ الكذب؟! هل نتحدّث إذًا عن قوّةٍ إيجابيّة وأخرى سلبيّة أيضًا، بل وحتّى عن عنفٍ إيجابيّ وآخر سلبيّ؟!
الإعلام
تتكاثر المحطّات التلفزيونية الفضائيّة والإذاعات ومواقع الأنترنت على أشكالها المختلفة تكاثر الفطر بعد المطر في غابة الأسلاك والكابلات الضوئية والصّحون المستقبلة، وتحت سماء الأقمار الصّنعيّة الّتي تمدّ تلوّثنا إلى الفضاء.
ولكن هل كلّ هذا "إعلامٌ" حقًّا؟! أم هو تضليل، تزييف، تمويه،… وأكثره تخدير، سرقةٌ للوقت في أحسن الأحوال، ولكن ليس إعلامًا؟!
خبّرني صديقٌ من خريجي كلّيّة الإعلام في إحدى الجامعات: إنّهم يعلّمونك هناك كيف، ومن أين تَلتقط صورةً لتبدو غير ما هي عليه، كيف تنقل حدثًا وينقله زميلك، بنفس الأمانة ولكنّه يظهر حدثًا آخر! أجل، قال صديقي: هناك مهنيّة في تغطية الأحداث، إنّما تقابلها مهنيّة أخرى مختلفة عند الطّرف الآخر، الصّحافيّ أو المصوّر الآخر الّذي تخرّجت أنت وهو من نفس الكلّيّة وعملتما في وكالتي أنباء مختلفتين أو تابعتين لحزبين متعارضين!
العلم
يُحمِّل البعض، وربّما الكثيرون، العلم وزر الكثير من الحالة الحرجة الّتي تعيشها البشريّة، لكنّني أحبّ أن أفرّق دومًا بين العلم وتطبيقاته، ومثال المدية الّتي يمكن أن تُستخدم لعملٍ جراحيّ أو لقتل إنسان، والّتي أصبحت مع تطوّر العلم طاقةً نووية لمعالجة بعض الأمراض أو لإنتاج الكهرباء أو بالمقابل قنبلةً نووية لا تُبقي ولا تذر، يبقى من أفضل الأمثلة.
العلم المجرّد وسيلةٌ للمعرفة، منهجٌ لفهم العالم، محاولةٌ مشروعةٌ للإجابة عن بعض الأسئلة الأزليّة: من أين، وإلى أين، وكيف، ولماذا؟!… وهو على ما أظنّ يقوم بمهمّته أفضل من مناهج أخرى كثيرة. صحيحٌ ما قاله طاغور عن استخدام علم النفس، وعلى نحوٍ واسع جدًّا في قيادة الناس كقطيع، صحيحٌ جدًّا ومؤسفٌ جدًّا، لكنّ الأمر يتعلّق باستخدام، بل باستغلال العلم، وليس بالعلم نفسه.
… والعولمة؟!
استُخدِم مصطلح العولمة مؤخّرًا لوصف حالةٍ اقتصاديّةٍ عالميّةٍ منشودة، تُزال فيها الحواجز أمام حركات البضائع من جهة وأمام انتقال رؤوس الأموال من جهةٍ أخرى، بحيث يتحوّل العالم بالتدريج إلى سوقٍ كبيرةٍ وتتحوّل أرجاؤه المختلفة إلى فرصٍ استثماريّة، ويُختَزَل النّاس فيه، من وجهة نظر الاقتصاد السلبيّ، إلى منتجين ومستهلكين، وقود آلةٍ ضخمة لا تكفّ عن الدوران، هي الّتي تحدّث عنها ميخائيل نعيمة في قصّته الرائعة: ساعة الكوكو[9.
لا بدّ من القول إنّ مثل هذه الحالة آخذةٌ بالتّحقق، وما تداعيات الأزمة الماليّة الغربيّة الّتي ألقت بظلالها على كلّ الدول وأرخت ثقلها على الغالبية الساحقة من الناس، إلاّ برهانًا عليها.
لقد انتشر مصطلح العولمة إذًا انطلاقًا من هذه النّظرة الاقتصادية السّلبيّة. لكنّ تحقيق هذه الغاية الاقتصادية، الّذي يُنجز بخطىً سريعةً أحيانًا ويتعثّر في أحيان أخرى، ليس أمرًا من السهولة بمكان، وهنا يظهر قران الاقتصاد مع السياسة والقوّة والإعلام وتطبيقات العلم، أمّا الإيديولوجيا فإنّني أحار حقًّا في دورها ومكانتها! ففي الوقت الّذي يؤكّد فيه الكثيرون أنّ العقيدة لا تعدو كونها ستارًا وغطاءً للسياسة أو للقوّة العسكريّة أو للغايات الاقتصاديّة، يؤكّد الآخرون أنّ الأسباب الحقيقية لكلّ الأعمال العنفيّة الكبرى هي العقائد والإيديولوجيات - كما في الحرب العالمية الثانية مثلاً - وأنّ الاقتصاد والسياسة والقوّة... ليست سوى أدواتٍ بيد الإيديولوجيا... ولكن، لماذا لا نقول إنّ الإيديولوجيا والاقتصاد يرتبطان على نحو عضويّ بحيث يصعب أن نقول مَن يسبق الآخر؟! أليست نظريّة العولمة الاقتصاديّة إيديولوجيا قبل أن تكون اقتصادًا، لكنّها إيديولوجيا لا تنفصل عن الاقتصاد؟! ألا يغذّي سلطانُ المادّة إلهَ العقائد الجامدة بقرابينه من الأموات جوعًا وقهرًا؟! أولا يبادله هذا الإله الخدمة بمباركة سلطانه "الإلهيّ" وإسناد أمر العالم إليه؟!
ثمّة حالةٌ من تطوّرٍ دوليّ، نرى بموجبه تركيزًا للثروات من جهة، وازديادًا في أعداد الجائعين من جهةٍ أخرى، نرى فيه أموالاً تُجبى من "دافعي الضرائب" وتُقدّمُ مساعداتٍ لشركاتٍ كبرى، فتصرفها مكافآتٍ لبعض المديرين وتسرِّح آلاف العمّال، نرى فيه فلاّحي دول العالم الثالث يبيعون غلاّتهم بأسعار أقلّ - بين عامٍ وآخر- ليشتريها المستهلكون في كلّ العالم بأسعار أعلى - بين عامٍ وآخر-. نرى فيها انتقالاً لمعامل الشركات الصناعية الكبرى إلى دول العالم الثالث استغلالاً لليد العاملة الرخيصة وكذلك تجنّبًا لمزيدٍ من التلوّث في دول رأس المال، ولا نرى بالمقابل انخفاضًا في أسعار منتجاتها، نرى فيه المصرف الدوليّ، بالتّحالف مع حكوماتٍ دولٍ تُسمّى كبرى ومع تكتّلات شركات احتكارية عملاقة تشدّد الخناق على حكومات وشعوب الدول الأكثر فقرًا مع أنّ بعضها قد يكون من أغنى دول العالم بموارده الطّبيعيّة...، نرى فيه تقاطعًا في المصالح بين شركات صناعة الأغذية وشركات صناعة الأسلحة، نرى فيه مافيات تجارة الأطفال متلبّسةً برداء العمل الإنسانيّ ومحميّةً من سلطاتٍ رسميّة لدولٍ تُدعى كبرى، نرى ملاّك معامل أسلحة يصيرون مسؤولي شؤون إنسانيّة، نرى المعاهدات والاتفاقيات السياسية بركةً وتصديقًا لكلّ هذا الظلم، نرى القوّة الغاشمة وسيلةً لا بدّ منها حين لا تنفع السياسة، نرى عقيدة الحرّيّة والديمقراطيّة ومحاربة الإرهاب مظلّةً كبرى تبرّر كلّ تعسّف، ونرى طواحين الأكاذيب تجمّل هذا الواقع الشاذ! هذه الحالة القائمة والّتي نشاهدها ونعيش تطوّراتها هي ما أسمّيه عولمة سلبيّة.
والعولمة بمفهومها الإيجابيّ...
ولكن... إذا نظرنا إلى الاقتصاد على أنّه إدارة الموارد بشكل حسن وتوزيعها بشكل عادل وموازنة الإنتاج مع الاستهلاك، مع النّظر إلى الاحتياجات الحقيقيّة للأفراد والجماعات دون غضّ الطّرف عن الاحتياجات الهامّة للأرض نفسها، ومراعاة عدم استنفاذ مواردها،... وإذا أمكن لنا أن نتخيّل السياسة وسيلة تعاونٍ دوليّ مخلص لتحقيق هذه الغايات، وإذا رجونا يومًا تكون القوّة فيه وسيلة للحفاظ على السلامة والأمانة، والسهر على الراحة والحياة، وإذا حلمنا بيومٍ يتخلّى فيه الإنسان عن كلّ عقيدةٍ منزَلة جامدة غير متطوّرة، دون أن يتخلّى عن حقّه بالاعتقاد وبالتفكير وعن حرّيّة التعبير، مع ما يقود إليه هذا من احترامٍ متبادل للفئات والشعوب والأديان والطوائف... إذا أدركنا مدى صعوبة هذا الحلم أفلا تظهر لنا شبه استحالة عولمة إيجابيّة؟!
لا أظنّ، فهذه العولمة، الإيجابيّة والبنّاءة والمحمودة موجودةٌ وقائمةٌ منذ الآن، فليس كلّ الاقتصاديين سرّاقًا ولا كلّ السّاسة كاذبين ولا كلّ أصحاب المبادئ منافقين ولا كلّ الإعلاميين بائعي كلمات وصور، ولا كلّ العسكريين سفّاحين. هذه العولمة الإيجابيّة موجودة ٌمنذ الآن أقلّه طالما أنّ كثيرين يحلمون بها. وهذه العولمة الإيجابية هي الغالبة على المدى الطويل لأنّها لا تقع وحسب على الطرف المقابل للعولمة السلبية الّتي تحدّثنا عنها بل أعتقد أنّها أبعد من ذلك بكثير.
إنّها أكثر من تقريب النّاس من بعضهم البعض في وسائل المواصلات والاتصالات المتطوّرة، إنّها أكثر من الإمكانيات الهائلة للأنترنت الّتي تعطي الفرد البسيط فرصة المشاركة بشكل أكثر مباشرة في التّعبير، بل وحتّى في تغيير العالم، إنّها أكثر من منظّمات يتعاون فيها أفراد، وتتعاون هي فيما بينها ومع مؤسّسات أخرى للعمل من أجل السلام والعدالة والكفاية والصحة والبيئة والتعليم...
العولمة الإيجابية هي تلك الحقيقة العميقة الّتي أومأت لها في بداية هذا الحديث، رباطنا العضويّ، كوننا خلايا كثيرة في جسد واحد، وإن كان هذا الجسد لا يزال جنينًا، أو كما يقول ميخائيل نعيمة: "إلهًا في القمط"[10]
ألسنا، نحن دعاة السلام، نتعاطفٍ مع ميَتَّمي بلاد آباء التاريخ، نجوع مع مفَقَّري بلادٍ تدرّ لبنًا وعسلاً، نشدّ على أيدي حملة وورثة المفاتيح العتيقة، نحزن لإباداتٍ جماعيّة وتطهيراتٍ عرقيّة هنا وهناك،… بل ألا نتأثّر حتّى لاستباحة مملكة الحيوان، للصّيد الجائر، لانقراض مئات الأنواع كلّ يوم، ألا يؤلمنا أيضًا وأيضًا اجتثاث الغابات المطيرة في بلاد كولومبوس، تسارع التصحّر في كلّ أرجاء العالم، التعدّي على زرقة السّماء في كلّ مكان، غياب نجوم السّهر والسّمر في تلوّث الدخان والضوء والضجيج، ذبح البحر والمحيط من الوريد إلى الوريد، اغتصاب الأرض في وضح النّهار؟! أما ظنّكم مثلي أنّ هذه المشاعر هي البعد الأعمق للعولمة، هي ألمنا، كأعضاء في جسم واحدٍ، مع ألم أعضاء أخرى؟!
فما الّذي نفعله حيال كلّ هذا إذًا أو ما الّّذي يُفترض أن نفعله؟!
لقد ترك لنا غاندي في نضاله العظيم مثالاً ونهجًا… لكنّنا كثيرًا ما نختزل، مع الأسف، إرث غاندي بالمظاهرات السلمية والاعتصام، والصيام،… وغالبًا ما ننسى أنّ اهتمام غاندي بالعدالة لم يقتصر على محيطه وبلده، فلقد كتب عن معظم الأحداث الكبرى في العالم في زمنه وقال كلمته في كثير من النزاعات. ننسى من جهةٍ أخرى أنّ عمل غاندي كان بالأولى نضالاً في نفسه غيّره من شخصٍ يثور بسبب طرده من عربة الدرجة الأولى في وسيلة نقل، إلى شخصٍ يختار مهما كان الظّرف عربة الدرجة الثالثة.
أنا أقول إنّ النضال السّلميّ من أجل قضيّة هنا وأخرى هناك هو حقّ وواجب. لكنّني أظنّ أنّنا لا نستطيع أن نناضل، بعد اليوم على الأقلّ، من أجل هذه دون تلك. أظنّ فوق ذلك أنّ هذا النضال لا يقتصر ولا يبدأ ولا يُحصَر بمظاهرةٍ أو مقالٍ أو اعتصامٍ أو محاضرة أو رسالة احتجاج أو بيانٍ إعلاميّ، فكلّ هذا، على أهمّيّته يأخذ وقتًا محدّدًا و… ينتهي حتّى ولو أعقبه نشاطٌ يماثله. أقول إنّ النضال اللاعنفيّ هو نضالٌ على مستوى الكوكب، وهو لهذا السبب نضالٌ على مستوى النفس، وأودّ هنا أن أطرح بضعة أمثلة:
يعتصم دعاة سلامٍ صادقون في مدينةٍ ما من مدن العالم أمام مبنى شركةٍ ثبت أنّها تعيد تعليب أغذيةٍ فاتت مدّة صلاحيّتها. ينتهي الاعتصام ويشعر الشّبّان بالجوع، يدخلون مطعمًا قريبًا جاهلين أنّ عائديّته ترجع للمجموعة نفسها الّتي تملك تلك الشركة.
يلقي مدافعٌ عن حقوق المرأة محاضرةً عن قصور القوانين وإجحافها، لكنّ أكثر ما يلفت السامعين في محاضرته هو بزّته الأنيقة مع ربطة عنقٍ حريريّة مصنوعة في ورشات شركةٍ عالميّة كبرى تدور عجلة مصانعها في بعض أفقر بلدان العالم حيث تعمل ساعاتٍ طويلاتٍ عاملاتٌ في ظروف من أسوأ ما يكون ومقابل أجرٍ لا يسدّ الرّمق.
تعمل منظّمةٌ ناشطةٌ في الدفاع عن البيئة وحمايتها على تأسيس محميّة. عملٌ يُحتَرَم. لكنّ هذه المنظّمة تلجأ، في حاجتها لتمويل هذا المشروع،  إلى شركة نفطٍ تساعدها مقابل شرطٍ بسيط: أن يوضع اسم الشركة مرّاتٍ عديدة على سور المحميّة وخصوصًا على بابها الرّئيسيّ. يجهل أصحاب النيّة السليمة أنّ هذه الشركة العالميّة تلوّث البيئة بشكل خطيرٍ وعنيف في أماكن أخرى كثيرة.
كلّ من الاحتجاج على بيع أغذيةٍ فاسدة والحديث عن حقوق المرأة وتأسيس محميّة طبيعيّة، أعمالٌ لاعنفيّة بشكلٍ أو بآخر، كلّ هذا مهمّ جدًّا، لكنّه قد لا يكون الأهمّ.
يبدأ نضالي اللاعنفيّ، أو هكذا يُفترض، منذ الصّباح: بأيّ نوعٍ من الصّابون أغسل وجهي؟! كم من الماء أصرف في غسيل يديّ؟! (إذا علمنا أنّ الصعوبات الكبرى الّتي تواجهها الكثير من الدول، من الآن فصاعدًا، هي صعوبات توفير مياه الشرب والرّيّ، وإذا فهمنا أنّ ذلك يعني إمكانية نشوب حروبٍ صغيرةٍ وكبيرة من أجل موارد المياه، فإنّ هذا يدلّنا على أنّ توفير الماء والاقتصاد باستعماله هو عملٌ لا عنفيّ ممتاز لأنّه أيضًا عملٌ لا عنفيّ استباقيّ!) ما الّذي أتناوله من طعام ومن أين أتسوّقه؟! ما هي وسيلة المواصلات الّتي أستقلّها إلى عملي، بل كيف أختار أصلاً هذا العمل ولماذا أستمرّ به؟! إلى أيّة مدرسةٍ أوصِل ابنتي وأنا في طريقي إلى العمل، وهل أوصلها بنفسي أو أترك ذلك لوسيلة النّقل الجماعيّة الخاصّة بالمدرسة نفسها إن وُجِدت؟!…….. يمكنني أنّ أطرح ألف سؤال، تنتهي بالوسادة الّتي أسند إليها رأسي في آخر النهار، وسؤالٌ إضافيّ صعب: ألا يزال لي ما أسند له رأسي؟!… ثمّ تتكرّر الأسئلة نفسها في يومٍ آخر… وتضاف لها أسئلة جديدة: … هل ينتهي نضالي اللاّعنفيّ مع عطلة نهاية الأسبوع، أو مع العطلة السّنويّة: أين أذهب في يوم راحتي وما الّذي أفعله فيه؟! أين أسافر إن كان لي أن أسافر في سياحةٍ مرّةً كلّ عام أو كلّ عدّة أعوام.
ثمّة دراساتٌ موثّقة تقوم بها جمعيّاتٌ غير ربحيّة في بعض البلدان تصدر قوائم سوداء بالشّركات الّتي تلوّث البيئة، أو الّتي تستغلّ عمالة الأطفال، أو الّتي لا تلتزم بقواعد صحّيّة، الخ… وأعتقد أنّه قد آن الأوان كي تنشط مثل هذه الجمعيّات في كلّ البلدان من جهة وأن تصبح عالميّةً من جهةٍ أخرى، فإذا كنّا نشتري معظم سلعنا من شركاتٍ عبر قارّيّة فإنّ من الضّروريّ أن تراقب هذه الشركات منظّماتٌ عبر قاريّة موثوقة.
أمّا في غياب هذه المؤسّسات فيمكن اقتراح ما يلي:
حين يستوي الأمر عندي وأكون قادرًا على الاختيار، فلأختر، في الحالة العامّة، المحلّيّ الصنع على المستورد، والحكوميّ على الخاص، واليدويّ على صنع الآلة… وحتّى في أبسط الأمور، يمكنني أن أختار الشراء من صاحب الحانوت البسيط على الـ "مول" الضخم…
ما أريد قوله ببساطة هو إنّي أومن أنّ كلّ عملٍ أقوم به، صغيرًا كان أو كبيرًا يرتبط بقدرٍ أو بآخر، شئت أو أبيت، وبطريقةٍ أدركها أو لا أدركها بكلّ ما يحدث في الأرض، وأنّ عليّ في كلّ مرّة أن أُحسِن الاختيار.
الوحدة الكبرى
ذلك أنّ الموضوع لم يعد موضوع ربحي وخسارتي، ولم يعد حتّى موضوع عدل وظلم، لقد صار الموضوع هو خلاصنا جميعًا أو هلاكنا معًا.
نحن مهدّدون اليوم من كلّ صوب: الغابات، وهي رئات الأرض، تموت يومًا بعد يوم. مصادر المياه في تضاؤلٍ مستمرّ. جبال الجليد الّتي كان شعراء الشّمال يصفونها بالأبديّة تبدأ بالذّوبان، والكثير من المدن الساحليّة في العالم باتت مهدّدةً بالغرق. الهواء الّذي نتنفّسه صار، خصوصًا في المدن الكبرى، يقارب في ضرره نفعه. الطّاقة الّتي اختزنَتْها لنا الأرض في الوقود الأحفوريّ بدّدنا أكثرها خلال أقلّ من مائة عام، وقد لا يلزمنا نصف هذا العدد من السّنين كي نصرف ما تبقّى، أمّا الأجيال التالية فلتحلّ أمورها بنفسها، وليكن بعدنا الطوفان… الأمراض المصطنعة،… هندسة الوراثة والاستنساخ واللعب بالحياة،… الروبوتات الّتي بدأ الكثيرون يتخوّفون فعلاً من تحكّمها فينا… كلّ هذا والخطر النووي الّذي يهدّد بتدمير كلّ الحياة في ساعات جاثمٌ على صدور الجميع منذ وقتٍ غير قصير بحيث اعتدنا عليه وما عدنا نشعر بثقله!
الوحدة الكبرى هي أكثر بكثير من مجرّد العولمة، حتّى ولو كانت إيجابيّة: الوحدة الكبرى، هذا الرّباط العضويّ للحياة الواحدة على الأرض، يخبرنا أنّ بقاء هذه الحياة، وبالتّالي بقاءنا كجنس بشريّ، يفرض علينا عمل الكثير.
يعني اللاعنف في الجوهر أن نكفّ عن أذية أمّنا الأرض، ولا يكون لنا هذا إلاّ بتغيير كلّ واحدٍ سلوكه الشّخصيّ بتغيير نظرته للحياة. ليس الموضوع هو أن نكون أكثر رفاهيّةً، بل أن نكون أكثر إخلاصًا، ولا يستقيم الأمر بأن ينتظر أحدنا الآخر… إنّما تتطلّب الحالة شجاعة الإقدام.
*** *** ***
 












ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق