الفن التشكيلي والرمز الشعري في أعمال مروة كريدية
" الفن والحرية والجمال ثالوث لا يتجزأ!"
و عندما ننَحِّي الزَّمن عن الذهن نلامس كلّ ما هو لازمني !
حوار - محمد نجيم
ترى الفنانة التشكيلية مروة كريدية أن الفن عَصيّ عن التعريف وإنْ تجلى كمقاربة ابداعية لموسيقى الوجود، فالفنون البصرية التشكيلية وغنائية السرد والشعر هي كشف عن ينبوع المحبة والفطنة الكامن في الانسان وآنة تعكس كمال التناغم اللامتناهي بين الإنسان والحقيقة الواحدة المتجلية في كل تلك الكائنات، وهي تلك اللحظة التي يحقق فيها المرء تمام "الوحدة" مع الوجود وفيما يلي حوار مع مبدعة مميزة تتجاوز في حديثها البعد الصوري للتتصل بالفلسفة والوجود .
· بالبداية ، ما هو الفنّ بالنسبة لك ؟
لاشك في ان تعريفات الفلاسفة للفن كثيرة ففيما اعتبر هيغل أن "الفن هو مملكة الرائع " نجد ان كروتشه قال "الفن حدس" ….. ربما أجد نفسي على الحقيقة عاجزة عن إعطاء أي توصيف له ، لأن الفنّ عصيّ عن التوصيف والتعريف ولا يمكن للعبارة مهما عمقت ان تحيط به.
· نجد لك أعمالا شعرية وأخرى فنية تشكيلية ، فيما تمتهنين العمل في الميدان الاعلامي، في أي المجالات تجدين نفسك ؟
بالنسبة لي فإنِّي مجرد "هاوية" ولا أقدم نفسي من خلال أي مسمى فني أو توصيفي أو تخصصي… فالحالة الوجدانية الرائعة التي تنتاب المرء عند الابداع تتجاوز المسميات، ومع تقدم خبرات الانسان في الحياة يشعر بضآلة إنتاجه مهما بَلغ، فينكفأ تلقائيًّا عن عالم الإعلام المادي الذي يزعج فطرة وجدانه، كما يربأ بنفسه عن زيف "الألقاب" مهما كان مصدرها .
· إلى أي "المدارس الفنية" أعمالك التشكيلية أقرب ؟
أعذرني…إن قلت لك أنّي لا أجيد "فهم المدارس"، وإن كنت احترمها وأقدّر روائعها التي غالبًا ما تضيق بالمدرسة نفسها لأن العمل الفني الرائع يتجاوز التصنيف… أسألك هل يمكن أن نسأل عصفورًا يغرد عن نوع اللحن الذي يقدمه وعن مدرسته الموسيقية ؟!
· إن كان مجرد تعبير، فهل تعبّرين عن الجمَال بالرسم الفني أم عن الفن بالجمال ؟
الجمال ليس صورة مُتخيَّلة في الأذهان نرغب في رؤيتها، أو نعمل على صناعتها ، الجمال دائم الوجود نراه وإن أغمضنا عيوننا، ونسمعه وان أغلقنا آذاننا … إنه الحياة بكل مكنوناتها ، والفن لا ينفصل عنه بحال من الأحوال ، كَمَا سائر مكونات الكون وكائناته
الفن بوصفه فعلا هو غور لاعماقنا الانسانية وعود للذات الى أصلها ، هي تلك الآنة التي نتماهى فيها مع ذاك اللامتناهي "الغيب"، فالكون يمور في الكائنات وفينا نحن البشر، وهنا تكمن وحدة الكثرة وكثرة الواحد وتجلياته اللامتناهية!
· هي عملية بحث عن المجهول عبر الريشة أو الكلمة إذن ؟
أتوق توقًا أبديا للتَّماهِي مَع ذاك الغائب المَجهول- بالنسبة لنا – وهو معلوم على الحقيقة، فأبحث بالكلمة واللون عن الجمال بالجمال وعن المحبة بالمحبة، وعند الوقوع في الآنة الفنيّة تَتلون اللوحة من تلقائها وتنبعث الحروف وهي آنة غير منفصلة عن الواقع او معزولة عنه .
· بالعودة الى الكلمة نجد أنك تعتمدين الرمز، وكأن القصيدة لغز مُشَفَّر، فيما نجد أن لوحاتك واضحة الموضوع، وعند مقارنة مكنونات القصائد وموضوع اللوحات نجد تباينًا في المضامين ، كيف تفسرين ذلك ؟
ربما في ديواني الأخير "لوامع من بقايا الذاكرة" حاولت ان أكسر الألفاظ لصالح كثافة المعنى، فالرمز اللغوي وقوام أداتها الفنية يكمن هنا… لذلك فإن اللغة جاءت عابقة بالخمرة مجازية ومنتشية في آن مَعًا ، لأنها عبارة عن ممارسة ل "العود"…وهو تتالي الفناء والبقاء بإيقاع عبر علاقة مجازية بين الكائن والمكون، بين الوجود والصور، بين الذات والغيب، بين الحاضر والغائب …
أما معظم لوحاتي فَشكلت إفصاحًا واضح المعالم غير مُشفرّ .. علمًا انَّ بعضًا من أعمالي التشكيلية جاء مجردًّا حيث طُوِيَ الرسم لصالح البعد الرمزي بالكامل و قُدِّم "اللامرئي" ببعد غنوصيّ، وبعضها تركز على محورية "البؤرة" بوصفها العين التي تشكل مركزية في الاعمال البصرية.
أشير هنا الى أن التقنية المستخدمة في الرسم تختلف عن تلك المستخدمة في الكتابة ، فألوان الرسام مهما تنوعت تبقى أقل اتساعًا من حدود الكلمة التي تتسع لرمزية عالية جدًا .
· هل يمكن أن نصف أعمالك الشعرية بأنها ذات بعد صوفي أم سورياليّ فيما الرسم جاء واقعي أو انطباعي ؟
لا اكترث بالمسميات سواء كانت "سوريالية " أم "صوفية " سَمّها ما شئت… فإن كانت اللحظة الصوفية فناء للذات عن ذاتها وان كانت الآنة السريالية توقٌ لوعي يبحث ؛ فإن كليهما يشكلان تجليا للابداع ولا مشاحَّة في الاصطلاح !
البعد "الصوفي " موجود في خواطري المكتوبة ويتجلى من خلال نشوة الحرف التي تعكس نشوة التجربة الروحية ، والبعد "السريالي " موجود أيضًا عبر تمام حضور الوعي..أليست البصيرة وعيًا قادرًا على الافصاع عن واقع موجود؟!
· هل ترين أن الفن يترفع عن الواقع المادي نحو "الواقع المعنوي"؟
لا أريد أن أنفي عن عالم الفن الواقعية وأرفعه عن فضاءات الادراك الحسي ، بل إن تمام الاستغراق التأملي هو وَعيّ كامل ، فإن كان الوَجْد غير مرئي والعقل شاهد في عالم الحس ، فإن تمام الفن التأملي شهود الواقع ورؤية الموجود وتجاوزه إلى ما هو أبعد، وهي لحظة يَقظة الوعي التي يتسامى بها الانسان عن كلّ قيدٍ يكبله ! لذلك فإن الفن والحرية والجمال ثالوث لا يتجزأ!
· كيف هي علاقتك بأعمال عمالقة الفن ، خصوصًا وانك أشرت في إحدى لوحاتك انك استوحيتها من أعمال مونيه، ألا يُعد ذلك تكرارًا؟
لوحات عمالقة الفن تأسرني وأغيب في عالمها وعندما أضمحل بها أجد رغبة عارمة باعادة صياغتها على طريقتي، أعشق لوحات فان غوغ والفنان العبقري كلود مونيه الرائع وربما أول لوحة رسمتها استلهمتها من اعماله تلك المسماة "واتر ليلي بوند : بركة زنبق الماء" والتي رسمها عام 1899 لقد شكلّتها بتلقائية وشغف طفولي بالغ وكانت محاكاة مذهلة، وان كانت ليست ابداعًا خالصًا ، غير أني قدمتها بروحيّة تنزاح بالناظر الى بُعد جديد لا تقف عند تخوم الألوان وأبعادها بل تلامس حدود الموضوع أيضا.
أقول لك أمرًا قد لا أبالغ فيه : أن الفن حالة بنت آنتها و بيئتها وظروفها وعواملها المادية و الوجدانية، وتلك الآنة ليست قابلة للتكرارأبدًا ، إن الفنان لا يستطيع تقليد نفسه تقليدا تامًّا وكاملا، لأنها حالة تتقلب مع تعدد الأنفاس، فحتى لو أعاد رسم نفس اللوحة التي رسمها بنفسه فإنها ستكون مختلفة لان لحظتها الفنية مغايرة .
فيروز قد تكرر الجملة أكثر من مرة أثناء أدائها الغنائي الرائع، وكذلك أم كلثوم، بيد أنّها تقدمه بإيقاعٍ قولي مختلف…نعم ، يُمكن للفنان أن يعيد انتاج فَنِّه إلى ما لا نهاية لأن الفنان سيعيد الإنتاج بتنوع كبير؛ إن متذوقي الفنون الراقية لا يَمَّلون من تكرار الاستماع إلى موسيقى "ياني" أو "بيتهوفن "!
· هل من تحضيرات معينة تتخذينها عند الكتابة أو الرسم ؟
الابداع بالريشة أم بالقلم أم بغيرهما من الوسائل اللامتناهية في عالمنا البديع هو كنسمة الهواء التي تدخل بتلقائية عند فتح النافذة، فالإنسان لا يفعل أكثر من أن يترك الأمور تتحرك ببراءة وعفوية لا حدّ لها !
لذلك فإني الآن لا أتعمد اتخاذ وضعية معينة للرسم أو الكتابة أو التحضير لها ، وإن كنت أحرص على ان أكون بكامل "أناقتي الروحية " وجهوزيتي الوجدانية …هي لحظة نور أشعر أن أناملي تنساب فيها بشغف… وأحيانا أخرى أنقطع عن الرسم فأجد الرغبة في تَدوين خواطر فتتناثر الكلمات بتتدفق ….
كما أشرت لك في بداية اللقاء ربّما يبدو إيقاع حياتي شديد التنظيم بيد انه نظام "غير مُفتعل" إنه كالنهر ينساب بين الشجر فلا الماء تستأذن الحصى ولا الريح يستجدي المطر…
أمور يومي تمرّ بانسيابية وتلقائية وعفوية بكل فصوله شتائه وصيفه حلوه ومره! إنه تناغم غير منفصل مع الكون والمكون إنه التوحد مع الكثير اللامتناهي .
· متى توصلتي إلى هذه "القناعة" او الى هذه الحالة ؟
إن الحياة "المدنية" العنيفة والعوامل"التربوية" الاشراطية حولّت حياة البشر الى كابوس حقيقي تقودهم فيها الى النزاع ، وبما انّي ابنة هذا "المجتمع الكابوسي" فقد وجدت نفسي مثل "برغي" يدور في آلةٍ عنيفةٍ غبية، استيقظ منزعجة على جرس يخترق أذني لأجد في مفكرتي قائمة طويلة جدا من "المهمات" التي ينبغي علي إنجازها بدقة متناهية وبسرعة فائقة، وَ أني أمام "واجبات غبية" ينبغي علي اتمامها كي أحظى "بتقدير الآخرين"…، لينتهي "ماراتوني" اليومي بعد طول ركض وعناء منهارة أمام شاشة إلكترونية… إنها مسرحية حمقَاء !
ومع تنامي الخبرات الروحية والنفسية ومنذ عدّة سنوات قررت أن أغادر عالم "المهمات " و "الانجازات " و "الوظائف" و "الألقاب " و"مهرجانات الرياء"…إلى غير رجعة! فخلعت تفاهة أفكاري، وحررت نفسي من أسر كل ما من شأنه أن يعيق إشراقتي الروحيّة ، فانجلى أمامي مفهوم الزمن فتبرأت منه … فالماضي ليس سوى ذكرى الحاضر وما المستقبل سوى حاضر منقوص …فقررت ان أعانق حاضري واستغرق في آنتي بتأمل كبير، فخيم الهدوء والسكينة والجمال والاحساس الرائع بالمحبة…
نعم،عندما تُنَحِّي الزَّمن عن ذهنك تلامس كلّ ما هو لازمني !
****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق